نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُواْ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗ وَءَاثَارٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٖ} (21)

ولما وعظهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار ، وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار ، أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة من تتبع الديار والاعتبار ، بما كان لهم فيها من عجائب الآثار ، من الحصون والقصور وسائر الأبنية الصغار والكبار ، فقال موبخاً ومقرراً عاطفاً على ما تقديره ألم يتعظوا بما أخبرناهم به عن الظالمين الأولين ومن تبعهم من الإهلاك في الدنيا المتصل بالشقاء في الأخرى : { أو لم يسيروا } ولما كان المتقدمون من الكثرة والشدة والمكنة بحيث لا يعلمه إلا الله ولا يقدر آدمي على الإحاطة بمساكنهم ، نبه عليه بقوله : { في الأرض } أي أي أرض ساروا فيها وعظتهم بما حوت من الأعلام .

ولما كان السير سبباً للنظر قال : { فينظروا } أي نظر اعتبار كما هو شأن أرباب البصائر الذين يزعمون أنهم أعلاهم . ولما كانت الأحوال المنظور فيها المعتبر بها شديدة الغرابة ، نبه عليها بقوله : { كيف } أي أنها أهل لأن يسأل عنها ، ونبه على أن التصاقها بهم في غاية العراقة بحيث لا انفكاك لها بقوله : { كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين كانوا } أي سكاناً للأرض عريقين في عمارتها . ولما كان المنتفع بالوعظ يكفيه أدنى شيء منه ، نبه على ذلك بالجار فقال : { من قبلهم } أي قبل زمانهم { كانوا } ولما كان السياق لمجادلة قريش لإدحاض الحق مع سماعهم لأخبار الأولين ، كانوا كأنهم ادعوا أنهم أشد الناس ، فاقتضى الحال تأكيد الخبر بأن الأولين أشد منهم ، فأكد أمرهم فيما نسبه إليهم معبراً بضمير الفصل بقوله : { هم } أي المتقدمون ، لما لهم من القوى الظاهرة والباطنة .

ولما كان مرجع المجادلة القوة لا الكثرة ، أسقطها وقال استئنافاً في جواب من لعله يقول : ما كان أمرهم ؟ : { أشد منهم } أي هؤلاء - قرأه ابن عامر { منكم } بالكاف كما هو في مصحف أهل الشام على الالتفات للتنصيص على المراد { قوة } أي ذواتاً ومعاني { و } أشد { آثاراً في الأرض } لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليها ألوف من السنين ، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن .

ولما كانت قوتهم ومكنتهم سبباً لإعجابهم وتكبرهم على أمر ربهم ومخالفة رسله ، فكان ذلك سبب هلاكهم قال : { فأخذهم الله } أي الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة ، ولما لم يتقدم شيء يسند إليه أخذهم ، قال مبيناً ما أخذوا به : { بذنوبهم } أي التي سببت لهم الأخذ ولم يغن عنهم شيء من ذلك الذي أبطرهم حتى عتوا به على ربهم ولا شفع فيهم شافع { وما كان لهم } أي من شركائهم الذين ضلوا بهم كهؤلاء ومن غيرهم { من الله } أي عوض المتصف بجميع صفات الكمال ، أو كوناً مبتدئاً من جهة عظمته وجلاله ، وأكد النفي بزيادة الجار فقال : { من واق * } أي يقيهم مراده سبحانه فيهم ، لا من شركائهم ولا من غيرهم ، فعلم أن الذين من دونه لا يقضون بشيء ، ويجوز أن تكون " من " الأولى ابتدائية على بابها تنبيهاً على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدئ من جهته سبحانه لهم وقاية لم تكن لهم باقية بخلاف من عاقبه الله عقوبة تأديب ، فإن عذابه يكون سبب بقائه لما يحصل له منه سبحانه من الوقاية .