التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ} (6)

استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإِنذار يهيّىء النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشدّ تغلغلاً في القلب حينئذ لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقّة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك .

النداء للتنبيه تنبيهاً يشعر بالاهتمام بالكلام والاستدعاء لسماعه فليس النداء مستعملاً في حقيقته إذ ليس مراداً به طلب إقبال ولا هو موجّه لشخص معين أو جماعة معينة بل مثلُه يجعله المتكلم موجّهاً لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد .

فالتعريف في { الإِنسان } تعريف الجنس ، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين ، أي ليس المراد إنساناً معيناً ، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عَقِبَه { بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين } [ الانفطار : 9 ، 10 ] الآية .

وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإِنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده : { بل تكذبون بالدين } [ الانفطار : 9 ] فالمعنى : يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركاً لأن إنكار البعث والشرك مُتلازمان يومئذ فهو من العامّ المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في ابتداء الدعوة الإِسلامية هم المشركون .

و { مَا } في قوله : { ما غرك بربك } استفهامية عن الشيء الذي غرّ المشرك فحمله على الإِشراك بربه وعلى إنكار البعث .

وعن ابن عباس وعطاء : الإِنسان هنا الوليد بن المغيرة ، وعن عكرمة المراد أبيّ بن خلف ، وعن ابن عباس أيضاً : المراد أبو الأشد بن كَلَدَة الجُمحِي ، وعن الكلبي ومقاتل : نزلت في الأسود بن شَريق .

والاستفهام مجاز في الإِنكار والتعجيب من الإِشراك بالله ، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غروراً غرّه عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل إلا أن يغره به غار ، فيحتمل أن يكون الغرور موجوداً ويحتمل أن لا يكون غروراً .

والغرور : الإِطماع بما يتوهمه المغرور نفعاً وهو ضرّ ، وفعلُه قد يسند إلى اسم ذات المُطمع حقيقة مثل : { ولا يغرنكم باللَّه الغرور } [ لقمان : 33 ] أو مجازاً نحو : { وغرتكم الحياة الدنيا } [ الجاثية : 35 ] فإن الحياة زمان الغرور ، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [ آل عمران : 196 ] . وقول امرىء القيس :

أغرَّك مني أن حبك قاتلي

أو مجازاً نحو قوله تعالى : { زخرف القول غروراً } [ الأنعام : 112 ] .

ويتعدى فعله إلى مفعول واحد ، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء ، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله : { ولا يغرنكم باللَّه الغرور } [ لقمان : 33 ] ، أي لا يغرنكم غروراً متلبساً بشأن الله ، أي مصاحباً لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي بَاء السببية كما يقال : غره ببذل المال ، أو غرّه بالقول .

وإذ كانت الملابسة لا تتصوّر ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام ، فالمعنى هنا : ما غرك بالإِشراك بربك كما يدل عليه قوله : { الذي خلقك فسواك فعدلك } الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلاّ مشركاً .

وإيثار تعريف الله بوصف « ربك » دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإِنشاء والرفق ، ففيه تذكير للإِنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ .