السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ} (6)

وقوله تعالى : { يا أيها الإنسان } أي : البشر الآنس بنفسه الناسي لما يعنيه خطاب لمنكري البعث . وروى عطاء عن ابن عباس : أنها نزلت في الوليد بن المغيرة . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أبي الشريق ضرب النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعاقبه الله تعالى في أوّل أمره . وقيل : تتناول جميع العصاة لأنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . { ما غرّك بربك } أي : ما خدعك وسوّل لك الباطل حتى تركت ما أوجب عليك المحسن إليك وأتيت بالمحرّمات { الكريم } أي : الذي له الكمال كله المقتضي لأن لا يهمل الظالم ولا يسوى بين المحسن والمسيء ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر وهو ظاهر الآية فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر وإنكار الحشر والنشر .

فإن قيل : كونه كريماً يقتضي أن يغترّ الإنسان بكرمه لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع وعصيان المذنب ، وهذا يوجب الاغترار كما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه صيح بغلام له مرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب فقال له : لم لا تجيبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه .

وقالوا أيضاً : من كرم ساء أدب غلمانه . وإذا ثبت أنّ كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله هاهنا مانعاً من الاغترار ؟ أجيب : بأنّ حق الإنسان أن لا يغتر بكرم الله تعالى عليه حيث خلقه حياً ، وتفضل عليه فهو من كرمه لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدّة التوبة ، وتأخيراً للجزاء إلى أن يجمع الناس للجزاء فالحاصل أنّ تأخير العقوبة لأجل الكرم ، وذلك لا يقتضي الاغترار بهذا التفضيل فإنه منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها : «غرّه جهله » . وقال عمر : غرّه حمقه وجهله . وقال الحسن : غرّه والله شيطانه الخبيث ، أي : زين له المعاصي . وقال له : افعل ما شئت فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلاً ، وهو متفضل عليك آخراً حتى ورّطه .

وقيل للفضيل بن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : { ما غرّك بربك الكريم } ماذا تقول له ؟ قال : أقول غرّني ستورك المرخاة ، وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويظنّ به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم أنما قال { بربك الكريم } دون سائر صفاته ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم . وقال مقاتل : غرّه عفو الله حيث لم يعاقبه أوّل مرّة . وقال السدي : غرّه رفق الله تعالى به . وقال قتادة : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان . وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله تعالى به يوم القيامة فيقول : ما غرّك بي يا ابن آدم ؟ ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟