الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ} (6)

فإن قلت : ما معنى قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } وكيف طابق الوصف بالكرم إنكار الاغترار به ، وإنما يغتر بالكريم ، كما يروى عن عليّ رضي اللَّه عنه أنه صاح بغلام له كرّات فلم يلبه ، فنظر فإذا هو بالباب ، فقال له : ما لك لم تجبني ؟ قال : لثقتي بحلمك وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه ، وقالوا : من كرم الرجل سوء أدب غلمانه . قلت معناه أنّ حق الإنسان أن لا يغترّ بتكرم الله عليه ، حيث خلقه حياً لينفعه ، وبتفضله عليه بذلك حتى يطمع بعدما مكنه وكلفه فعصى وكفر النعمة المتفضل بها أن يتفضل عليه بالثواب وطرح العقاب ، اغتراراً بالتفضل الأوّل ، فإنه منكر خارج من حد الحكمة ، ولهذا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلاها . " غرّه جهله " وقال عمر رضي الله عنه : غرّه حمقه وجهله . وقال الحسن : غره والله شيطانه الخبيث ، أي : زين له المعاصي وقال له : أفعل ما شئت ، فربك الكريم الذي تفضل عليك بما تفضل به أوّلا وهو متفضل عليك آخراً ، حتى ورطه وقيل للفضيل ابن عياض : إن أقامك الله يوم القيامة وقال لك : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } ماذا تقول ؟ قال أقول : غرّتني ستورك المرخاة . وهذا على سبيل الاعتراف بالخطأ في الاغترار بالستر ، وليس باعتذار كما يظنه الطماع ، ويطّن به قصاص الحشوية ويروون عن أئمتهم : إنما قال { بِرَبّكَ الكريم } دون سائر صفاته ، ليلقن عبده الجواب حتى يقول : غرّني كرم الكريم . وقرأ سعيد بن جبير : «ما أغرّك » إما على التعجب ، وإما على الاستفهام ؛ من قولك : غرّ الرجل فهو غارّ : إذا غفل ، من قولك : بيتهم العدوّ وهم غارّون . وأغرّه غيره : جعله غاراً .