والمراغم : المتحول والمذهب ، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم ، ومنه قول النابغة الجعدي : [ المتقارب ]
كَطود يلاذ بأَرْكَانِهِ *** عَزِيزٌ المراغِمِ وَالْمَذْهَبِ{[4234]}
إلى بَلِدٍ غَيْرِ داني الْمَحَلّ *** بَعِيدِ المرَاغمِ والْمُضْطَرَبْ{[4235]}
وقال مجاهد : «المراغم » المتزحزح عما يكره ، وقال ابن زيد : «المراغم » المهاجر ، وقال السدي : «المراغم » المبتغى للمعيشة .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وهذا كله تفسير بالمعنى ، فأما الخاص باللفظة ، فإن «المراغم » موضع المراغمة ، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده ، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة ، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم ، فتلك المنعة هي موضع المراغمة . وكذلك الطود الذي ذكر النابغة ، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل{[4236]} فقد أرغم أنف ذلك الطالب .
وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مَرْغماً » بفتح الميم وسكون الراء دون ألف . قال أبو الفتح : هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم ، والجماعة على «مراغم » ، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم : { السعة } هنا هي السعة في الرزق ، وقال قتادة : المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى ، وقال مالك : السعة سعة البلاد .
قال القاضي رحمه الله : والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل ، وبذلك تكون «السعة » في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح ، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [ حطان بن المعلّى ] .
لَكَانَ لي مَضْطَرَبٌ وَاسِعٌ *** في الأَرْضِ ذَاتِ الطُّولِ والْعَرْضِ{[4237]}
وَكُنْتُ إذَا خَليلٌ رامَ قَطْعي وَجَدْتُ وَرَاي مُنْفَسَحاً عَرِيضاً{[4238]}
وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى : { ألم تكن أرض الله واسعة } وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق ، وقوله تعالى { ومن يخرج من بيته } الآية : حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه ، أما أنه لا يقال : إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة ، ولكن يقال : وقع له بذلك أجر عظيم ، وروي : أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة ، وقيل : من خزاعة من بني ليث ، وقيل : من جندع{[4239]} ، لما سمع قول الله عز وجل { الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً } قال : إني لذو مال وعبيد - وكان مريضاً - فقال : أخرجوني إلى المدينة ، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم{[4240]} ، فنزلت الآية بسببه ، واختلف في اسمه ، فحكى الطبري عن ابن جبير : أنه ضمرة بن العيص ، أو العيص بن ضمرة بن زنباع ، وحكي عن السدي : أنه ضمرة بن جندب ، وحكي عن عكرمة : أنه جندب بن ضمرة الجندعي ، وحكي عن ابن جبير أيضاً : أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث ، وحكى أبو عمر بن عبد البر : أنه ضمرة بن العيص ، وحكى المهدوي : أنه ضمرة بن نعيم ، وقيل : ضمرة بن خزاعة ،
وقرأت الجماعة «ثم يدركْه الموت » بالجزم عطفاً على { يخرج } وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركُه » برفع الكاف - قال أبو الفتح : هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله ، فهما إذن جملة ، فكأنه عطف جملة على جملة ، وعلى هذا حمل يونس بن جبيب قول الأعشى : [ البسيط ]
إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الْخَيْلِ عَادَتُنا *** أو تَنْزِلُونَ فإنّا مَعْشَرٌ نُزُلُ{[4241]}
المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [ رويشد بن كثير الطائي ] : [ البسيط ]
إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتيني بِقيتُكُمْ *** فَمَا عَلَيّ بِذَنْبٍ عِنْدكُمْ فَوتُ{[4242]}
المعنى : ثم أنتم تأتيني . وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر : [ الوافر ]
ألم يأتيكَ وألأنباءُ تنمى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4243]}
وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركَه » بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن » كقول الأعشى : [ الطويل ]
لَنَا هضبةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَها *** وَيَأْوِي إلْيها الْمُسْتَجيرُ فَيُعْصَمَا{[4244]}
أراد : فأن يعصم - قال أبو الفتح : وهذا ليس بالسهل وإنما بابه اشعر لا القرآن ، وأنشد ابن زيد : [ الوافر ]
سَأَتْرُكُ مَنْزِلي لِبَني تَمِيمٍ *** وأَلحقُ بالحِجَازِ فأَسْترِيحا
والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف{[4245]} .
قال القاضي أبو محمد : ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازياً فله سهمه من الغنيمة ، قاسوا ذلك على «الأجر » ، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي - وجب - لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة . فشبه لازم المعاني بذلك وباقي الآية بيّن .
جملة { ومن يهاجر } عطف على جملة { إنّ الذين توفّاهم الملائكة } [ النساء : 97 ] ، و ( مَن ) شرطية . والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله . والسبيل استعارة معروفة ، وزادها قبولاً هنا أنّ المهاجرة نوع من السير ، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية . والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض ، وفعل راغم مشتقّ من الرّغام بفتح الراء وهو التراب . أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره ، ولعلّ أصله أنّه أبقاه على الرغام ، أي التراب ، أي يجِد مكاناً يُرْغم فيه من أرغمه ، أي يَغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر ، قال الحارث بن وعلة الذهلي :
لا تأمنَنْ قوماً ظلمتهم *** وبدأتهم بالشتم والرغــم
إن يأبِرُوا نَخْلاً لغيرهم *** والشيءُ تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عوْناً للعدوّ على قومهم . ووصفُ المراغم بالكثير لأنّه أريد به جنس الأمكنة . والسعة ضد الضيق ، وهي حقيقةً اتّساعُ الأمكنة ، وتطلق على رفاهية العيش ، فهي سعة مجازية . فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير ، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنّه يجده ملائماً من جهة أرضاء النفس ، ومن جهة راحة الإقامة .
ثم نوّه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلاً بمجرّد الخروج من بلد الكفر ، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجَر إليه . بقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } الخ . ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله . وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للإلتحاق بالرسول وتعزيز جانبه ، لأنّ الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصّل على نصرة الرسول ، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجَرهُ إلى المدينة .
ومعنى { يدركه الموت } ، أي في الطريق ، ويجوز أن يكون المعنى : ثم يدركه الموت مهاجراً ، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصحّ ، وقد اختلف في الهجرة المرادة من هذه الآية : فقيل : الهجرة إلى المدينة ، وقيل : الهجرة إلى الحبشة . واختلف في المعني بالموصول من قوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله } . فعند من قالوا إنّ المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فلمّا نزل قوله تعالى : { إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم إلى قوله : وكان الله غفوراً رحيماً } [ النساء : 97 100 ] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة ، وكان هذا الرجل مريضاً ، فقال : إني لَذو مال وعبيد ، فدعا أبناءَه وقال لهم : احملوني إلى المدينة .
فحملوه على سرير ، فلمّا بلغ التنعيم توفّي ، فنزلت هذه الآية فيه ، وتعمّ أمثاله ، فهي عامّة في سياق الشرط لا يخصّصها سبب النزول .
وكان هذا الرجل من كنانة ، وقيل من خزاعة ، وقيل من جُنْدَع ، واختلف في اسمه على عشرة أقوال : جندب بن حمزة الجندعي ، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي . ضمرة بن بغيض الليثي ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن جندب الضمْري ، ضمرة بن ضمرة بن نعيم . ضمرة من خزاعة ( كذا ) . ضمرة بن العيص . العيص بن ضمرة بن زنباع ، حبيب بن ضمرة ، أكثم بن صيفي .
والذين قالوا : إنّها الهجرة إلى الحبشة قالوا : إنّ المعنيّ بمن يخرج من بيته خالد بن حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أمّ المؤمنين ، خرج مهاجراً إلى الحبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات . وسياق الشرط يأبى هذا التفسير .