المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (139)

هذه الآية تتضمن تعديد مذاهبهم الفاسدة ، وكانت سنتهم في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على نسائهم ويخصصونه لذكورهم ، والهاء في { خالصة } قيل هي للمبالغة كما هي في رواية غيرها{[5115]} ، وهذا كما تقول فلان خالصتي ، وإن كان باب هاء المبالغة أن يلحق بناء مبالغة كعلامة ونسابة وبصيرة ونحوه ، وقيل هي لتأنيث الأنعام إذ ما في بطونها أنعام أيضاً{[5116]} ، وقيل هي على تأنيث لفظ { ما } لأن { ما } واقعة في هذا الموضع موقع قولك جماعة وجملة{[5117]} ، وقرأ جمهور القراء والناس «خالصةٌ » بالرفع ، وقرأ عبد الله بن مسعود وابن جبير وابن أبي عبلة والأعمش «خالصٌُ » دون هاء ورفع هاتين القراءتين على خبر الابتداء .

وقرأ ابن عباس بخلاف{[5118]} والأعرج وقتادة وسفيان بن حسين «خالصةً » بالنصب ، وقرأ سعيد بن جبير فيما ذكر أبو الفتح «خالصاً » ونصب هاتين القراءتين على أن الحال من الضمير الذي في قوله { في بطون } ، وذلك على تقدير الكلام : وقالوا : ما استقر هو في بطون هذه الأنعام فحذف الفعل وحمل المجرور الضمير ، والحال من الضمير والعامل فيها معنى الاستقرار ، قال أبو الفتح ويصح أن يكون حالاً من { ما } على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها ، وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو حيوة والزهري «خالصه » بإضافة «خالص » إلى ضمير يعود على { ما } ، ومعناه ما خلص وخرج حياً ، والخبر على قراءة من نصب «خالصة » في قوله { لذكورنا } والمعنى المراد بما في قوله { ما في بطون } قال السدي : هي الأجنة ، وقال ابن عباس وقتادة والشعبي : هو اللبن ، قال الطبري واللفظ يعمهما ، وقوله { ومحرم } يدل على أن الهاء في { خالصة } للمبالغة ، ولو كانت لتأنيث لقال ومحرمة ، و { أزواجنا } يريد به جماعة النساء التي هي معدة أن تكون أزواجاً ، قال مجاهد ، وحكى الطبري عن ابن زيد أن المراد ب { أزواجنا } البنات .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يبعد تحليقه على المعنى ، وقوله { إن يكن ميتة } كان من سنتهم أن ما خرج من الأجنة ميتاً من تلك الأنعام الموقوفة فهو حلال للرجال والنساء جميعاً وكذلك ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها ، وقرأ ابن كثير «وإن يكن » بالياء «ميتةٌ » بالرفع فلم يلحق الفعل علامة التأنيث لما كان تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ، والمعنى وإن وقع ميتة أو حدث ميتة ، وقرأ ابن عامر «وإن تكن » بالتاء «ميتةٌ » بالرفع فألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل في اللفظ مؤنثاً ، وأسند الفعل إلى الميتة كما فعل ابن كثير ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه «تكن » بالتاء «ميتةً » بالنصب فأنث وإن كان المتقدم مذكراً لأنه حمله على المعنى .

قال القاضي أبو محمد : فالتقدير وإن تكن النسمة أو نحوها ميتة ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «يكن » بالياء «ميتةً » بالنصب ، فذكروا الفعل لأنهم أسندوه إلى ضميرما تقدم من قوله { ما في بطون هذه الأنعام } وهو مذكر ، وانتصبت الميتة على الخبر ، قال أبو عمرو بن العلاء ويقوي هذه القراءة قوله { فهم فيه } ولم يقل فيها{[5119]} ، وقرأ يزيد بن القعقاع «وإن تكن ميّتة » بالتشديد ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فهم فيه سواء » ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات إلى الله تعالى وشرعوه من الباطل والإفك{[5120]} { إنه حكيم } أي في عذابهم على ذلك { عليم } بقليل ما تقوّلوه من ذلك وكثيره .


[5115]:- وعلى هذا يكون معنى خالص وخالصة واحد لا فرق إلى أن الهاء للمبالغة، قاله الكسائي.
[5116]:- هذا جواب عن اعتراض رد على قول من قال: تأنيثها-أي خالصة- لتأنيث الأنعام، وهو قول الفراء، فقال جماعة: هذا خطأ لأن ما في بطونها ليس منها ولهذا فهو لا يشبه قوله تعالى: {يلتقطه بعض السيارة} لأن بعض السيارة سيارة. والجواب عن ذلك: هذا لا يلزم الفراء لأن ما في بطون الأنعام أنعام مثلها فأنّث لتأنيثها. وهذا هو سر تعبير ابن عطية بهذه الجملة.
[5117]:- وقيل: إن (ما) يرجع إلى الألبان أو الأجنة، فجاء التأنيث على المعنى والتذكير على اللفظ، ولهذا قال: {ومحرم على أزواجنا} على اللفظ، ولو راعى المعنى لقال: ومحرّمة، ويعضد هذا قراءة الأعمش وغيره، [خالص] بغير هاء.
[5118]:- أي أن هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما موضع خلاف، وانظر بعد ذلك قراءته المروية عنه بالإضافة.
[5119]:- قال أبو حيان: "وهذا ليس بجيد لأن الميتة لكل ميّت ذكرا كان أو أنثى فكأنه قيل: "وإن يكن ميتا فهم فيه شركاء". (البحر المحيط 4/ 233).
[5120]:- جاء هذا الوعيد في قوله تعالى: {سيجزيهم وصفهم} أي: كذبهم وافتراءهم، وانتصب (وصفهم) بنزع الخافض، إذ المعنى: سيجزيهم بوصفهم، والله أعلم.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (139)

عطف على قوله : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] . وأعيد فعل : { قالوا } لاختلاف غرض المقول .

والإشارة إلى أنعام معروفة بينهم بصفاتها ، كما تقدّم ، أو إلى الأنعام المذكورة قبل . ولا يتعلّق غرض في هذه الآية بأكثر من إجمال الأشياء الّتي حرموها لأنّ المقصود التّعجيب من فساد شرعهم كما تقدّم آنفاً ، وهذا خبر عن دينهم في أجنّة الأنعام التي حجروها أو حرّموا ظهورها ، فكانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسّائبة : إذا خرجت أحياء يحلّ أكلها للذكور دون النّساء ، وإذا خرجت ميّتة حلّ أكلها للذّكور والنّساء ، فالمراد بما في البطون الأجنة لا محالة لقوله : { وإن يكن ميتة } وقد كانوا يقولون في ألبان البحيرة والسّائبة : يشربها الرّجال دون النّساء ، فظنّ بعض المفسّرين أنّ المراد بما في بطون الأنعام ألبانها ، وروي عن ابن عَبّاس ، ولا ينبغي أن يكون هو معنى الآية ولكن محمل كلام ابن عبّاس أنّ ما في البطون يشمل الألبان لأنَّها تابعة للأجنّة وناشئة عن ولادتها .

والخالصة : السّائغة ، أي المباحة ، أي لا شائبةَ حَرج فيها ، أي في أكلها ، ويقابله قوله : { ومحرم } .

وتأنيث { خالصة } لأنّ المراد بمَا الموصولة { الأجِنَّة } فروعي معنى ( ما ) وروعي لفظ ( ما ) في تذكير { محرّم } .

والمحرّم : الممنوع ، أي ممنوع أكله ، فإسناد الخلوص والتّحريم إلى الذّوات بتأويل تحريم ما تقصد له وهو الأكل أو هو والشرب بدلالة الاقتضاء .

والأزواج جمع زوج ، وهو وصف للشّيء الثّاني لغيره ، فكلّ واحد من شيئين اثنين هو زوج ، ولذلك سمّي حليل المرأة زوجاً وسمّيت المرأة حليلةُ الرّجل زوجاً ، وهو وصف يلازم حالة واحدة فلا يُؤنث ولا يثنّى ولا يجمع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة } في سورة البقرة ( 35 ) .

وظاهر الآية أن المراد أنّه محرّم على النساء المتزوّجات لأنّهم سمّوهنّ أزواجاً ، وأضافوهنّ إلى ضميرهم ، فتعيّن أنَّهن النّساء المتزوّجات بهم كما يقال : امرأة فلان . وإذا حملناه على الظاهر وهو الأوْلى عندي كان ذلك دالاً على أنّهم كانوا يتشاءمون بأكل الزّوجات لشيء ذي صفة كانوا يكرهون أن تصيب نساءَهم : مثللِ العقم ، أو سوءِ المعاشرة مع الأزواج ، والنّشوز ، أو الفراق ، أو غير ذلك من أوهام أهل الجاهليّة وتكاذيبهم ، أو لأنّه نَتاج أنعام مقدّسة ، فلا تحلّ للنّساء ، لأنّ المرأة مرموقة عند القدماء قبل الإسلام بالنّجاسة والخباثة ، لأجل الحيض ونحو ذلك ، فقد كانت بنو إسرائيل يمنعون النّساء دخول المساجد ، وكان العرب لا يؤاكلون الحائض ، وقالت كبشة بنت معديكرب تعيّر قومها :

ولا تَشرَبُوا إلاّ فُضُولَ نسائكم *** إذا ارتَمَلَتْ أعقابُهن منَ الدّم

وقال جمهور المفسّرين : أطلق الأزواج على النّساء مطلقاً ، أي فهو مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق والتّقييد ، فيشمل المرأة الأيّم ولا يشمل البناتِ ، وقال بعضهم : أريد به البنات أي بمجاز الأوْل فلعلّهم كانوا يتشاءمون بأكل البنات منه أن يصيبهن عسر التّزوّج ، أو ما يتعيَّرون منه ، أو نحو ذلك .

وكانت الأحوال الشّائعة بينهم دالّة على المراد .

وأمّا قوله : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } أي إنْ يولدْ ما في بطون الأنعام ميّتا جاز أكله للرّجال والأزواج ، أو للرّجال والنّساء ، أو للرّجال والنّساء والبنات ، وذلك لأنّ خروجه ميّتا يبطل ما فيه من الشّؤم على المرأة ، أو يذهب قداسته أو نحو ذلك .

وقرأ الجمهور : { وإن يكن } بالتحتيّة ونصب { ميتة } . وقرأ ابنُ كثير برفع { ميتة } ، على أنّ كان تامّة ، وقد أجري ضمير : { يَكُن } على التّذكير : لأنّه جائز في الخبر عن اسم الموصول المفرد اعتبار التّذكير لتجرّد لفظه عن علامة تأنيث ، وقد يراعى المقصود منه فيجري الإخبار على اعتباره ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك حتّى إذا خرجوا من عندك } [ محمد : 16 ] . وقرأ ابنُ عامر بالفوقيّة على اتّباع تأنيث { خالصة } ، أي إن تكن الأجنّة ، وقرأ { ميتة } بالنّصب ، وقرأه أبو بكر عن عاصم بالتّأنيث والنّصب .

وجملة : { سيجزيهم وصفهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كما قلتُ في جملة : { سيجزيهم بما كانوا يفترون } [ الأنعام : 138 ] آنفاً .

والوصف : ذكر حالات الشّيء الموصوف وما يتيمّز به لمن يريد تمييزه في غرض ما ، وتقدّم في قوله : { سبحانه وتعالى عمّا يصفون } في هذه السّورة ( 100 ) . والوصف ، هنا : هو ما وصفوا به الأجنّة من حِلّ وحرمَة لفريق دون فريق ، فذلك وصف في بيان الحرام والحلال منه كقوله تعالى : { ولا تَقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام } [ النحل : 116 ] .

وجزاؤهم عنه هو جزاء سوءٍ بقرينة المقام ، لأنّه سمّى مزاعمهم السّابقة افتراء على الله . وجُعل الجزاء متعدّيا للوصف بنفسه على تقدير مضاف ، أي : سيجْزيهم جزاءَ وصفهم . ضمّن { يجزيهم } معنى يُعطيهم ، أي جزاء وفاقاً له .

وجملة : { إنه حكيم عليم } تعليل لكون الجزاء موافقا لجرُم وصفهم . وتؤذن ( إنّ ) بالربط والتّعليل ، وتُغني غناء الفاء ، فالحكيم يضع الأشياء مواضعها ، والعليم يطّلع على أفعال المجزيين ، فلا يضيع منها ما يستحقّ الجزاء .