الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَٰذِهِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ خَالِصَةٞ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰٓ أَزۡوَٰجِنَاۖ وَإِن يَكُن مَّيۡتَةٗ فَهُمۡ فِيهِ شُرَكَآءُۚ سَيَجۡزِيهِمۡ وَصۡفَهُمۡۚ إِنَّهُۥ حَكِيمٌ عَلِيمٞ} (139)

قوله تعالى : { خَالِصَةٌ } : الجمهور على " خالصة " بالتأنيث مرفوعاً على أنه خبر " ما " الموصولة ، والتأنيث : إمَّا حَمْلاً على المعنى ؛ لأن الذي في بطون الأنعام أنعام ، ثم حُمِلَ على لفظها في قوله " ومحرَّم " ، وإمَّا لأنَّ التأنيث للمبالغة كهو في عَلاَّمة ونسَّابة وراوية ، وإمَّا لأن " خالصة " مصدر على وزن فاعلة كالعاقبة والعافية . وقال تعالى : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } [ ص : 46 ] وهذا القول قول الفراء ، والأول له أيضاً ولأبي إسحاق الزجاج ، والثاني للكسائي ، وإذا قيل : إنها مصدر كان ذلك على حذف مضاف أي : ذو خلوصٍ أو على المبالغةِ ، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل كنظائره . وقال الشاعر :

وكنتِ أُمْنِيَّتي وكنتِ خالصتي *** وليس كلُّ امرِئٍ بمؤتمنِ

وهذا مستفيضٌ في لسانهم : فلان خالصتي أي ذو خلوصي . و " لذكورنا " متعلِّقٌ به ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه وصف لخالصة وليس بالقوي .

وقرأ عبد الله وابن جبير وأبو العالية والضحاك وابن أبي عبلة " خالص " مرفوعاً على ما تقدَّم من غير هاء . و " لذكورنا " متعلق به أو بمحذوف كما تقدَّم . وقرأ ابن جبير أيضاً فيما نقله عنه ابن جني " خالصاً " نصباً من غير تاء ، ونصبُه على الحال ، وفي صاحبه وجهان أظهرهما : أنه الضمير المستتر في الصلة . الثاني : أنه الضمير المستتر في " لذكورنا " فإنَّ " لذكورنا " على هذه القراءة خبر المبتدأ ، وهذا إنما يجوز على مذهب أبي الحسن لأنه يجيز تقديم الحال على عاملها المعنوي نحو : " زيد مستقراً في الدار " ، والجمهور يمنعونه ، وقد تقدَّم تحقيق هذه المسألة بتفصيلها ودلائلها .

وقرأ ابن عباس أيضاً والأعرج وقتادة : " خالصةً " نصباً بالتأنيث ، والكلام في نصبه وتأنيثه كما تقدم في نظيره ، وخرَّجه الزمخشري على أنه مصدر مؤكد كالعاقبة . وقرأ ابن عباس أيضاً وأبو رزين وعكرمة وأبو حيوة : " خالصُه " برفع " خالص " مضافاً إلى ضمير " ما " . ورفعه على أحد وجهين : إمَّا على البدل من الموصول ، بدلِ بعض من كل ، و " لذكورنا " خبر الموصول ، وإمَّا على أنه مبتدأ ، و " لذكورنا " خبره والجملة خبر الموصول ، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حيث قلنا : إن " خالصة " مصدر أو هي للمبالغة فليس في الكلام حَمْلٌ على معنى ثم على لفظ ، وإن قلنا : إن التأنيث فيها لأجل تأنيث ما في البطون كان في الكلام الحَمْلُ على المعنى أولاً ثم على اللفظ في قوله " مُحَرَّمٌ " ثانياً ، وليس لذلك في القرآن نظير ، أعني الحمل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً .

إلا أن مكِّيَّاً زعم في غير " إعراب القرآن " له أن لهذه الآية نظائر فذكرها ، وأما في إعرابه فلم يذكر أن غيرها في القرآن شاركها في ذلك ، فقال في إعرابه " وإنما أَنَّث الخبر/ لأنَّ ما في بطون الأنعام أنعامٌ فحمل التأنيث على المعنى ، ثم قال : " ومُحَرَّمٌ " فذكَّر حَمْلاً على لفظِ " ما " ، وهذا نادرٌ لا نظير له ، وإنما يأتي في " مَنْ " و " ما " حَمْلُ الكلام أولاً على اللفظ ثم على المعنى بعد ذلك فاعرفه فإنه قليل " . وقال في غير " الإِعراب " : " هذه الآية في قراءة الجماعة أَتَتْ على خلاف نظائرها في القرآن ؛ لأنَّ كلَّ ما يُحْمل على اللفظ مرةً وعلى المعنى مرة إنما يتبدئ أولاً بالحمل على اللفظ ثم يليه الحَمْل على المعنى نحو : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ }

[ البقرة : 62 ] ثم قال : " فلهم أجرُهم " ، هكذا يأتي في القرآن وكلام العرب ، وهذه الآية تَقَدَّم فيها الحَمْلُ على المعنى فقال " خالصة " ، ثم حُمِلَ على اللفظ فقال : " ومُحرَّمٌ " ، ومثله { كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُةً } [ الإسراء : 38 ] في قراءة نافع ومَنْ تابعه فأنَّث على معنى " كل " لأنها اسم لجميع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخطايا ثم قال : " عند ربك مكروهاً " فذكَّر على لفظ " كل " وكذلك { مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ }

[ الزخرف : 13 ] جَمَعَ الظهور حملاً على معنى " ما " ووحَّد الهاءَ حَمْلاً على لفظ " ما " ، وحُكي عن العرب : " هذا الجرادُ قد ذهب فأراحنا مِنْ أَنْفُسِه " جمع الأنفس ووحَّد الهاء وذكَّرها .

قلت : أمَّا قوله " هكذا أتى في القرآن " فصحيح ، وأمَّا قوله " وكلام العرب " فليس ذلك بمُسَلَّم ؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْلِ على المعنى ، ثم على اللفظ ، وإن كان عكسُه هو الكثير ، وأمَّا ما جعله نظيرَ هذه الآية في الحَمْل على المعنى أولاً ثم على اللفظ ثانياً فليس بمُسَلَّم أيضاً ، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية ممَّا حُمِلَ فيها على المعنى أولاً ، ثم على اللفظ ثانياً . وبيان ذلك أنَّ لقائلٍ أن يقول : صلة " ما " جار ومجرور ، وهو متعلق بمحذوف فتقدره مسنداً لضمير مذكَّر أي : ما استقرَّ في بطون هذه الأنعام ، ويبعد تقديره باستقرَّت ، إذا عُرِف هذا فيكون قد حَمَل أولاً على اللفظ في الصلة المقدرة ثم على المعنى ثانياً . وأمَّا " كل ذلك كان سَيِّئةً " فبدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللفظ في قوله " كان " فإنه ذكَّر ضميره المستتر في " كان " ثم حمل على المعنى في قوله " سيِّئة " فأنَّث .

وكذلك " لتَسْتَووا " فإنَّ قبله " ما تركبون " ، والتقدير : ما تركبونه ، فحمل العائد المحذوف على اللفظ أولاً ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً ، وكذلك في قولهم " هذا الجراد قد ذهب " حُمِلَ على اللفظ فأفرد الضمير في " ذهب " ، ثم حُمِلَ على المعنى ثانياً فجمع في قوله " أنفسه " ، وفي هذه المواضع يكون قد حمل فيها أولاً على اللفظ ، ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، وكنتُ قد قَدَّمْتُ أن في القرآن من ذلك أيضاً ثلاثة مواضع : آية المائدة [ الآية : 60 ] : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } ولقمان [ الآية : 6 ] : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } والطلاق [ الآية : 11 ] : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ }

قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } قرأ ابن كثير " يكن " بياء الغيبة مَيْتَةٌ رفعاً ، وابن عامر : " تكن " بتاء التأنيث ، ميتة رفعاً ، وعاصم في رواية أبي بكر " تكن " بتاء التأنيث " ميتةً " نصباً ، والباقون " تكن " كابن كثير ، " ميتةً " كأبي بكر . والتذكير والتأنيث واضحان لأن الميتة تأنيث مجازي لأنها تقع على الذكر والأنثى من الحيوان فَمَنْ أنَّث فباعتبار اللفظ ، ومَنْ ذكَّر فباعتبار المعنى ، هذا عند مَنْ يرفع " ميتة " ب " تكن " ، أمَّا من ينصبها فإنه يسند الفعل حينئذٍ إلى ضميرٍ فيذكِّر باعتبار لفظ " ما " في قوله " ما في بطون " ويؤنث باعتبار معناها . ومن نصب " ميتة " فعلى خبر " كان " الناقصة . ومَنْ رفع فيحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون التامة ، وهذا هو الظاهر أي : وإن وجد ميتة أو حَدَثَتْ ، وأن تكون الناقصة ، وحينئذٍ يكون خبرُها محذوفاً أي : وإن يكن هناك أو في البطون ميتة وهذا رأي الأخفش ، فيكون تقدير قراءة ابن كثير : وإن يَحْدُثْ حيوان ميتة أو : وإن يكن في البطون ميتة ، على حسب التقديرين تماماً ونقصاناً ، وتقدير قراءة ابن عامر كتقدير قراءته ، إلا أنه أنَّث الفعل باعتبار لفظ مرفوعه ، وتقدير قراءة أبي بكر : وإن تكنِ الأنعامُ أو الأجنَّة ميتةً ، فأنَّث حَمْلاً على المعنى ، وقراءة الباقين كتقدير قراءته إلا أنهم ذكَّروا باعتبار اللفظ ، قال أبو عمرو بن العلاء : " ويُقَوِّي هذه القراءةَ يعني قراءة التذكير والنصب قوله " فهم فيه " ولم يقل فيها " . ورُدَّ هذا/ على أبي عمرو بأن الميتة لكل ميت ذكراً كان أو أنثى فكأنه قيل : وإن يكن ميتاً فهم فيه ، يعني فلم يَصِرْ له في تذكير الضمير في " فيه " حُجَّةٌ .

ونقل الزمخشري قراءة ابن عامر عن أهل مكة فقال : " قرأ أهل مكة " وإن تكنْ ميتةٌ " بالتأنيث والرفع " فإن عنى بأهل مكة ابن كثير ولا أظنه عناه فليس كذلك وإن عنى غيره فيجوز ، على أنه يجوز أن يكون ابن كثير قرأ بالتأنيث أيضاً ، لكن لم يُشْتهر عنه اشتهارَ التذكير . وقرأ يزيد " مَيِّتة " بالتشديد . وقرأ عبد الله : " فهم فيه سواء " وأظنها تفسيراً لا قراءةً لمخالفتها السواد .