سبب هذه الآية فيما ذكر الطبري بسند عن عدي بن ثابت أن أمراة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحالة التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فنزلت هذه الآية{[8658]} ، ثم هي عامة في الأمة غابر الدهر من حيث هذه النازلة تختص بكل أحد في نفسه وبيت الإنسان ، هو البيت الذي لا أحد معه فيه أو البيت الذي فيه زوجه أو أمته ، وما عدا فهو غير بيته ، قال ابن مسعود وغيره ينبغي للأنسان أن لا يدخل البيت الذي فيه أمه إلا بعد الاستيناس ، وروي في ذلك حديث عن النبي عليه السلام أن رجلاً قال يا رسول الله استأذن على أمي قال نعم قال إنما هي أمي ولا خادم لها غيري ، قال «أتحب أن تراها عريانة » قال لا ، قال «فاستأذن عليها{[8659]} وكذلك كل ذات محرم منه لأنه لا ينبغي أن يراهن عاريات » ، وقالت زينب امرأة ابن مسعود كان ابن مسعود إذا جاء منزله تنحنح مخافة أن يهجم على ما يكره ، و { تستأنسوا } معناه تستعلموا أي تستعلموا من في البيت وتستبصروا ، تقول آنست إذا علمت عن حس وإذا أبصرت ومنه قوله تعالى : { آنستم منهم رشداً }{[8660]} [ النساء : 6 ] ، وقوله { آنست ناراً }{[8661]} [ القصص : 29 ] ومنه قول حسان بن ثابت «أنظر خليلي بباب جلق هل تؤنس دون البلقاء من أحد »{[8662]} وقول الحارث أنست نبأة . . . . . . . . . . . البيت{[8663]} ، ووزن آنس أفعل واستأنس وزنه استفعل فكأن المعنى في «تستأنسون » تطلبون ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم ، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله فذلك يكون بالاستئذان على من فيه أو بأن يتنحنح ويستشعر بنفسه بأي وجه أمكنه ويتأنى قدر ما يتحفظ ويدخل إثر ذلك ، وذهب الطبري في { تستأنسوا } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شهر بكم .
قال الفقيه الإمام القاضي : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس ، وذكر الطبري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «حتى تستأذنوا وتسلموا » وهي قراءة أبي بن كعب وحكاها أبو حاتم «حتى تسلموا وتستأذنوا » قال ابن عباس { تستأنسوا } خطأ أو وهم من الكتاب .
قال الفقيه الإمام القاضي : مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها { تستأنسوا } وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان رضي الله عنه فهي التي لا يجوز خلافها ، والقراءة ب «يستأذنوا » ضعيفة ، وإطلاق الخطأ والوهم على الكتاب في لفظ أجمع الصحابة عليه لا يصح عن ابن عباس والأشبه أن يقرأ «تستأذنوا » على التفسير ، وظاهر ما حكى الطبري أنها قراءة برواية ولكن قد روي عن ابن عباس أنه قال { تستأنسوا } معناه «تستأذنوا » ، وما ينفي هذا القول عن ابن عباس أن { تستأنسوا } متمكنة في المعنى بينة الوجه في كلام العرب ، وقد قال عمر للنبي عليه السلام : استأنس يا رسول الله وعمر واقف على باب الغرفة الحديث المشهور{[8664]} وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم فكيف يخطىء ابن عباس رضي الله عنه أصحاب الرسول في مثل هذا{[8665]} ، وحكى الطبري أيضاً بسند عن ابن جريج عن ابن عباس وعكرمة والحسن بن أبي الحسن أنهم قالوا نسخ واستثني من هذه الآية الأولى قوله بعد
{ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة } [ النور : 9 ]
قال أبو محمد رحمه الله :وهذا أيضاً لا يترتب فيه نسخ ولا استثناء لأن الآية الأولى في البيوت المسكونة والآية الثانية في المباحة وكأن من ذهب إلى الاستثناء رأى الأولى عامة ، وصورة الاستئذان أن يقول الرجل السلام عليكم أأدخل ؟ فإن أذن له دخل وإن أمر بالرجوع انصرف وإن سكت عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف بعد الثلاث ، فأما ثبوت ما ذكرته من صورة الاستئذان فروى الطبري أن رجلاً جاء إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألج ؟ أو أتلج ؟فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : «قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل ؟ » فسمعه الرجل فقالها فقال له النبي عليه السلام «ادخل »{[8666]} وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوماً فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فقالت المرأة ادخل بسلام ، فأعاد ، فأعادت ، فقال لها قولي ادخل ، فقالت ذلك ، فدخل فكأنه توقف لما قالت بسلام لاحتمال اللفظ أن تريد ادخل بسلامك لا بشخصك ، ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة ، وأما ثبوت الرجوع بعد الاستئذان ثلاثاً فلحديث أبي موسى الأشعري الذي استعمله مع عمر وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري ثم أبي بن كعب الحديث المشهور{[8667]} ، وقال عطاء بن أبي رباح الاستئذان واجب على كل محتلم وسيأتي ذكر هذا ، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رسول الرجل إذنه »{[8668]} أي إذا أرسل في أحد فقد أذن له في الدخول وقوله : { ذلكم خير لكم } تم الكلام عنده ، وقوله : { لعلكم تذكرون } معناه فعلنا ذلك بكم ونبهناكم { لعلكم } .
ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليها...قال ابن القاسم:"سألت مالكا عن الاستئناس ما هو؟ فقال: التسليم...وقال: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع، قلت: ما هذا؟ قال: تسلم ثلاث مرات فإن أذن لك وإلا فانصرف".
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فقال بعضهم: تأويله يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا... حدثنا هشيم، قال: أخبرنا منصور، عن ابن سيرين، وأخبرنا يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد الثقفيّ: أنّ رجلاً استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أَلِج أو أَنَلِج؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها رَوْضة: «قومي إلى هَذَا فَكَلّمِيهِ، فإنّهُ لا يُحْسِنُ يَسْأْذِنُ، فَقُولي لَهْ يَقُولُ: السّلامُ عَلَيْكُمْ، أدْخُل؟» فسمعها الرجل، فقالها، فقال: «أُدْخُلْ»...
وقال آخرون: معنى ذلك: حتى تُؤْنِسوا أهل البيت بالتنحنح والتنخم وما أشبهه، حتى يعلموا أنكم تريدون الدخول عليهم...
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس: الاستفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهلَ البيت في الدخول عليهم، مخبرا بذلك من فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم. وقد حُكِي عن العرب سماعا: اذهب فاستأنس، هل ترى أحدا في الدار؟ بمعنى: انظر هل ترى فيها أحدا؟
فتأويل الكلام إذن، إذا كان ذلك معناه: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا وتستأذنوا، وذلك أن يقول أحدكم: السلام عليكم، أدخل؟ وهو من المقدم الذي معناه التأخير، إنما هو: حتى تسلموا وتستأذنوا، كما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.
وقوله:"ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ" يقول: استئناسكم وتسليمكم على أهل البيت الذي تريدون دخوله، فإن دخولكموه خير لكم لأنكم لا تدرون أنكم إذا دخلتموه بغير إذن، على ماذا تهجُمون؟ على ما يسوءكم أو يسرّكم؟ وأنتم إذا دخلتم بإذن، لم تدخلوا على ما تكرهون، وأدّيتم بذلك أيضا حقّ الله عليكم في الاستئذان والسلام. وقوله: "لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ "يقول: لتتذكروا بفعلكم ذلك أوامر الله عليكم، واللازم لكم من طاعته، فتطيعوه.
وإنما سُمّي الاستئذان استيناساً لأنهم إذا استأذنوا أو سلّموا أَنِسَ أهلُ البيوت بذلك، ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشقَّ عليهم. وأُمِرَ مع الاستئذان بالسلام إِذْ هو من سُنَّةِ المسلمين التي أُمروا بها، ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة ومَجْلَبَةٌ للمودة ونافٍ للحقد والضغينة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَسْتَأْنِسُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم...والثاني: أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف: استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً. والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا...
اعلم أنه تعالى عدل عما يتصل بالرمي والقذف وما يتعلق بهما من الحكم إلى ما يليق به لأن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت كأنها طريق التهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به فقال: {يا أيها الذين آمنوا}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه آداب شرعية، أدّب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثًا، فإن أذن له، وإلا انصرف...ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليَكن البابُ، عن يمينه أو يساره...وأخرج الجماعة من حديث شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي، فدققت الباب، فقال:"من ذا" ؟ قلت: أنا. قال: "أنا، أنا "كأنه كرهه. وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه ب "أنا"، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عداوة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم -إذ كان قانعاً منهم بداء الشرك- على الفطرة الأولى، أمر تعالى رداً لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي ألزموا أنفسهم هذا الدين {لا تدخلوا} أي واحد منكم، ولعله خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطردوا الشيطان بتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى، فمن خان منهم منعه إخوانه، فلم يتمكن منه شيطانه، فنهي الواحد من باب الأولى {بيوتاً غير بيوتكم} أي التي هي سكنكم {حتى تستأنسوا} أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به، فلو قيل له: من؟ فقال: أنا، لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته، بل الذي عليه أن يقول: أنا فلان -يسمي نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفر منه فيرد {وتسلموا على أهلها} أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا: السلام عليكم! أأدخل؟ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم {ذلكم} الأمر العالي الذي أمرتكم به {خير لكم} مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون، هذا في الدنيا، وأما في الأخرى فأعظم، وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إذا سلم ثلاثاً فلم يجبه أحد فليرجع.
وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع.
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه، قال: {لعلكم تذكرون} أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة، لأن الجزاء من جنس العمل، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الإسلام -كما أسلفنا- لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف، إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية. ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة.
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية، هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة؛ وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة. مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة المشروعة..
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها؛ فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول، خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت، وعلى عورات أهلها وهم غافلون.. ذلك مع غض البصر من الرجال والنساء، وعدم التبرج بالزينة لإثارة الشهوات.
ومن هنا كذلك ييسر الزواج للفقراء من الرجال والنساء. فالإحصان هو الضمان الحقيقي للاكتفاء.. وينهى عن تعريض الرقيق للبغاء كي لا تكون الفعلة سهلة ميسرة، فتغري بيسرها وسهولتها بالفحشاء.
فلننظر نظرة تفصيلية في تلك الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام...
لقد جعل الله البيوت سكنا، يفيء إليها الناس؛ فتسكن أرواحهم؛ وتطمئن نفوسهم؛ ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب!
والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم. وفي الوقت الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس..
من أجل هذا وذلك أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي. أدب الاستئذان على البيوت، والسلام على أهلها لإيناسهم. وإزالة الوحشة من نفوسهم، قبل الدخول...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد...وشرع الاستئذان لمن يزور أحداً في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حرّ وقرّ ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يحب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب..
.وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان. وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصاً بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارقَ فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافياً عن السلام...
ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتضى مساواتَهما في الحكم إذا كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاظ في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان. وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب...وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه...وليس للاستئذان صيغة معينة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لا تدخلوا بُيُوت الناس حَتَّى يؤذنَ لَكُم:
بيّنت هذه الآيات جانباً من أدب المعاشرة، والتعاليم الإسلامية الاجتماعية التي لها علاقة وثيقة بقضايا عامّة حول حفظ العفّة، أي كيفية الدخول إلى بيوت الناس، وكيفية الاستئذان بالدخول إليها.
حيث تقول أوّلا: (يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها). وبهذا الترتيب عندما تعزمون على الدخول لابدّ، من إخبار أصحاب البيت بذلك ونيل موافقتهم.
والذي يلفت النظر في هذه الجملة استعمالها «تستأنسوا» ولم تستعمل «تستأذنوا» لأنّ الجملة الثّانية لبيان الاستئذان بالدخول فقط، في الوقت الذي تكون الجملة الأُولى مشتقّة من «أنس» أي الاستئذان المرافق للمحبّة واللطف والمعرفة والإخلاص، وتبيّن كيف يجب أن يكون الاستئذان برفق وأدب وصداقة، بعيداً عن أي حدّة وسوء خلق. ولو تبحرنا في هذه الجملة على هذا الأساس لوجدنا فيها الكثير من الأدب الذي يدور حول هذا الموضوع، وهو يعني ألا تصرخوا وألاّ تقرعوا الباب بقوة، وألا تستأذنوا بعبارات حادّة، وألا تدخلوا حتى يُؤذنَ لكم، فتسلّموا أوّلا سلاماً يستبطن مشاعر السلام والود ورسالة المحبة والصداقة.
وممّا يلفت النظر في هذا الحكم الذي يتصف بأبعاد إنسانية وعاطفية واضحة، مرافقته لجملتين أولاها: (ذلكم خير لكم) وثانيها: (لعلكم تذكرون). وهذا بحدّ ذاته دليل على أن لهذه الأحكام جذوراً في أعماق العواطف والعقول الإنسانية، ولو دقق الإنسان النظر فيها لتذكر أن فيها الخير والصلاح.