فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف ، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء ، فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين ، وأيضاً : إن الإنسان يكون في بيته ، ومكان خلوته على حالة قد لا يحبّ أن يراه عليها غيره ، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية ، هي قوله : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } ، والاستئناس : الاستعلام ، والاستخبار أي : حتى تستعلموا من في البيت ، والمعنى : حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم ، وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم ، فإذا علمتم ذلك دخلتم ، ومنه قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدا } [ النساء : 6 ] أي : علمتم . قال الخليل : الاستئناس الاستكشاف ، من أنس الشيء إذا أبصره كقوله : { إِنّي آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] أي : أبصرت . وقال ابن جرير : إنه بمعنى : وتؤنسوا أنفسكم . قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس . ومعنى كلام ابن جرير هذا : أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ؟ فهو : كالمستوحش حتى يؤذن له ، فإذا أذن له استأنس ، فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل . وقيل : هو من الإنس ، وهو أن يتعرّف هل ثم إنسان أم لا ؟ وقيل : معنى الاستئناس : الاستئذان ، أي : لا تدخلوها حتى تستأذنوا . قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : حتى تستأذنوا ، ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس ، وأبيّ ، وسعيد بن جبير : أنهم قرءوا { حتى تستأذنوا } قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب : الاستئناس فيما يرى ، والله أعلم الاستئذان ، وقوله : { وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا } قد بينه النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بأن يقول : «السلام عليكم أأدخل ؟ » مرّة ، أو ثلاثاً كما سيأتي .

واختلفوا هل يقدّم الاستئذان على السلام أو العكس ، فقيل : يقدّم الاستئذان ، فيقول : أدخل ؟ سلام عليكم ، لتقديم الاستئناس في الآية على السلام . وقال الأكثرون : إنه يقدّم السلام على الاستئذان فيقول : السلام عليكم ، أدخل ؟ ، وهو الحقّ ، لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا . وقيل : إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام ، وإلاّ قدّم الاستئذان { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } الإشارة إلى الاستئناس والتسليم أي : دخولكم مع الاستئذان ، والسلام خير لكم من الدخول بغتة { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أن الاستئذان خير لكم ، وهذه الجملة متعلقة بمقدّر أي : أمرتم بالاستئذان ، والمراد بالتذكر الاتعاظ ، والعمل بما أمروا به .

/خ29