السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

الحكم السادس : ما ذكره بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } أي : التي تسكنونها ، فإن المؤجر والمعير لا يدخلان إلا بإذن ، وقرأ ورش وأبو عمر وحفص بضم الباء الموحدة ، والباقون بكسرها ، وفي قوله تعالى : { حتى تستأنسوا } وجهان : أحدهما : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش ؛ لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له فقد استأنس ، والمعنى حتى يؤذن لكم كقوله تعالى : { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } [ الأحزاب ، 53 ] ، وهذا من باب الكناية والإرداف ؛ لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن ، فوضع موضع الإذن ، والثاني : أن يكون من الاستئناس بمعنى الاستعلام والاستكشاف استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً ، والمعنى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه قولهم : استأنس هل ترى أحداً ، واستأنست فلم أرَ أحداً أي : تعرفت واستعلمت ، وقال الخليل بن أحمد : الاستئناس : الاستبصار ، من قولهم : آنست ناراً ؛ أي : أبصرت ، وقيل : هو أن يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح يؤذن أهل البيت ، وعن أبي أيوب الأنصاري قال : يا رسول الله : ما الاستئناس ؟ قال : «أن يتكلم الرجل » { وتسلموا على أهلها } كأن يقول الواحد : السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات ، فإن أذن له دخل ، وإلا رجع قال قتادة : المرة الأولى للتسميع ، والثانية : ليتهيأ ، والثالثة : إن شاء أذن ، وإن شاء رد ، وهذا من محاسن الآداب ، فإن أول مرة ربما منعهم بعض الاشتغال من الإذن ، وفي الثانية ربما كان هناك مانع يقتضي المنع ، فإن لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع ، ولهذا كان الأولى في الاستئذان ثلاثاً أن لا تكون متصلة ، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت ما .

ولا بد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبياً أو قريباً غير محرم سواء كان الباب مغلقاً أم لا ، وإن كان محرماً فإن كان ساكناً مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان ، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكناً فإن كان الباب مغلقاً لم يدخل إلا بإذن ، وإن كان مفتوحاً فوجهان ، والأوجه الاستئذان ، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر ، فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قالها ثلاثاً ، ثم رجع وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «الاستئذان ثلاثاً » ، و " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن ، قولي له يقول : السلام عليكم أدخل ، فسمع الرجل فقال : أدخل " .

وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساءً ، ثم يدخل ، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد ، فصدّ الله عز وجل عن ذلك ، وعلم ما هو الأحسن الأجمل ، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك .

قال الزمخشري : بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية ، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه ، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أين الأذن الواعية . { ذلكم خير لكم } أي : من تحية الجاهلية ، ومن أن تدخلوا من غير استئذان . «روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم ، قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال الرجل : لا ، قال : فاستأذن » ، وقوله تعالى : { لعلكم تذكرون } متعلق بمحذوف أي : أنزل عليكم ، وقيل : بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان ، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد .