البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد ، فلا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا } الآية .

فقال أبو بكر بعد نزولها : يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل { ليس عليكم جناح } الآية .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة ، فصارت كأنها طريق للتهمة ، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلاّ بعد الاستئذان والسلام ، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به .

والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه من غير استئذان ولا سلام لقوله { غير بيوتكم } " ويروى أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أأستأذن على أمي ؟ قال : «نعم » قال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : «أتحب أن تراها عريانة » قال الرجل : لا ، قال : وغيّا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت " ، والظاهر أن الاستئناس هو خلاف الاستيحاش ، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من جفاء الحال إذا أذن له استأنس ، فالمعنى حتى يؤذن لكم كقوله : { لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم } وهذا من باب الكنايات والإرداف ، لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .

وقد روي عن ابن عباس أنه قال { تستأنسوا } معناه تستأذنوا ، ومن روى عن ابن عباس أن قوله { تستأنسوا } خطأ أو وهم من الكاتب وأنه قرأ حتى تستأذنوا فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين ، وابن عباس بريء من هذا القول .

و { تستأنسوا } متمكنة في المعنى بنية الوجه في كلام العرب .

وقد قال عمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أستأنس يا رسول الله وعمر وأقف على باب الغرفة الحديث المشهور .

وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم .

وقيل : هو من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف ، استفعال من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً ، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا ، ومنه استأنس هل ترى أحداً واستأنست فلم أر أحداً ، أي تعرفت واستعلمت ومنه بيت النابعة :

كان رحلى وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وحد

ويجوز أن يكون من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان .

وعن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، ما الاستئناس ؟ قال : " يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة يتنحنح يؤذن أهل البيت والتسليم أن يقول السلام عليكم "

وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف .

واحد فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن الأكمل .

وذهب الطبري في { تستأنسوا } إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شُعر بكم .

قال ابن عطية : وتصريف الفعل يأبى أن يكون من آنس انتهى .

وقال عطاء : الاستئذان واجب على كل محتلم ، والظاهر مطلق الاستئذان فيكفي فيه المرة الواحدة .

وفي الحديث : « الاستئذان ثلاث » يعني كماله .

« فإن أذن له وإلاّ فليرجع ولا يزيد على ثلاث إلاّ أن يحقق أن من في البيت لم يسمع » والظاهر تقديم الاستئذان على السلام .

وفي حديث أبي داود : قل السلام عليكم أأدخل ؟ والواو في { وتسلموا } لا تقتضي ترتيباً فشرع النداء بالسلام على الإذن لما في السلام من التفاؤل بالسلامة .

{ ذلكم } إشارة إلى المصدر المفهوم من { تستأنسوا } و { تسلموا } أي { ذلكم } الاستئناس والتسليم { خير لكم } من تحية الجاهلية .

{ لعلكم تذكرون } أي شرَّعنا ذلك ونبهناكم على ما فيه مصلحتكم من الستر وعدم الاطلاع على ما تكرهون الإطلاع عليه { لعلكم تذكرون } اعتناء بمصالحكم .