فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتًا غَيۡرَ بُيُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰٓ أَهۡلِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (27)

ولما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين ، وأيضا فإن الإنسان يكون في بيته ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره ، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير فقال :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } أي التي لستم تملكونها ولا تسكنونها ، وليس لكم عليها يد شرعية أما المكتري . والمستعير ، فكل منهما يدخل بيته ، والمعنى لا تدخلوها إلى غاية هي قوله : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الاستئناس : الاستعلام ، والاستخبار أي حتى تستعلموا من في البيت والمعنى حتى تعلموا أن صاحب البيت قد علم بكم ، وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم فإذا علمتم ذلك دخلتم ، ومنه قوله { فإن آنستم منها رشدا } أي علمتم . قال الخليل : الاستئناس الاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره كقوله { إني آنست نارا } أي أبصرت .

وقال ابن جرير : إنه بمعنى تؤنسوا أنفسكم ، قال ابن عطية وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له فإذا أذن له استأنس . فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل وقيل : هو من الأنس وهو أن يتعرف هل ثمّ إنسان أم لا ؟ قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : حتى تستأذنوا ويؤيده ما حكاه القرطبي عن ابن عباس وأبي وسعيد

بن جبير أنهم قرءوا حتى تستأذنوا ، قال ما لك فيما حكاه عنه ابن وهب : الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان ؛ وعن ابن عباس قال : أخطأ الكاتب : حتى تستأذنوا .

{ وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } وفي مصحف عبد الله حتى تسلموا على أهلها ، وتستأذنوا ؛ وعن عكرمة نحوه : أخرج ابن أبي شيبة ؛ والطبراني وغيرهما عن أبي أيوب قال : قلت يا رسول الله أرأيت قول الله حتى تستأذنوا أو تسلموا على أهلها ، هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس . قال : " يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ؛ ويتنحنح ؛ فيؤذن أهل البيت " قال ابن كثير : هذا حديث غريب{[1282]} .

وأخرج الطبراني عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الاستئناس أن تدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت ، الذين تسلم عليهم " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال : اطلع رجل من حجر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك بها رأسه قال : لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينيك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر " {[1283]} وفي لفظ : إنما جعل الإذن من أجل البصر ، وعن أنس قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري كله في هذه الآية فما أدركتها : أن استأذن على بعض إخواني فيقول : ارجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله { وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } .

وعن ابن عباس قال : نسخ واستثنى من ذلك . فقال { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } أخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من طريق كلدة أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ{[1284]} وضغابيس{[1285]} . والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال : فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أأرجع فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه .

وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ، وأبو داود والبيهقي في السنن من طريق ربعي قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان . فقل له : قل السلام عليكم أأدخل ؟ .

وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعا . ولكنه قال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة : " قومي إلى هذا فعلميه " واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام ؟ أو العكس ؟ فقيل : يقدم الاستئذان فيقول أأدخل سلام عليكم ؟ لتقديم الاستئناس في الآية على السلام . وقال الأكثرون : إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ وهو الحق لأن البيان منه صلى الله عليه وسلم للآية كان هكذا : وقيل : إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام : وإلا قدم الاستئذان .

{ ذَلِكُمْ } أي الاستئناس والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام { خَيْرٌ لَّكُمْ } من التهجم بغير إذن ومن الدخول بغتة { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أنّ الاستئذان خير لكم ، وهذه الجملة متعلقة بمقدر أي : أمرتم بالاستئذان والمراد بالتذكر الاتعاظ ، والعمل بما أمروا به .


[1282]:ابن كثير 3/280.
[1283]:مسلم 2156-البخاري 2300
[1284]:اللبأ : هو أول ما يحلب عند الولادة، ولبأت الشاة ولدها أرضعته اللبأ (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/212، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة)
[1285]:الضغابيس : صغار القثاء، واحدها ضغبوس، وقيل هي نبت ينبت في أصول الثمام، يشبه الهليون، يسلق بالخل والزيت ويؤكل (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/89)