المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

روي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً }{[9382]} [ الإسراء : 85 ] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «التوراة قليل من كثير » ونزلت هذه الآية{[9383]} ، وهذا هو القول الصحيح ، والآية مدنية وقال قوم : سبب الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية ، وقال السدي : قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت .

قال الفقيه الإمام القاضي : والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى ، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة ، وأيضاً فإن الآية إنما تضمنت أن { كلمات الله } لم تكن لتنفد ، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه «الأقلام » والبحور ، قال أبو علي : المراد ب «الكلمات » والله أعلم ما في المقدور دون ما أخرج منه إلى الوجود ، وذهبت فرقة إلى أن «الكلمات » هنا إشارة إلى المعلومات .

قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية بحر نظر ، نور الله تعالى قلوبنا بهداه ، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي إسحاق وعيسى «والبحرَ » بالنصب عطفاً على «ما » التي هي اسم «أن » ، وقرأ جمهور الناس و «البحرُ » بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه ، حاله كذا ، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على «أن » لأنها في موضع رفع بالابتداء{[9384]} ، وقرأ جمهور الناس «يَمده » من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يُمده » من أمد ، وقالت فرقة هما بمعنى واحد ، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضاً وأمد الشيء ما ليس منه{[9385]} ، فكأن «الأبحر السبعة » المتوهمة ليست من { البحر } الموجود ، وقرأ جعفر بن محمد «والبحر مداده » وهو مصدر ، وقرأ ابن مسعود «وبحر يمده » ، وقرأ الحسن «ما نفد كلام الله » .


[9382]:من الآية 35 من سورة الإسراء.
[9383]:قال السيوطي في (الدر المنثور): "أخرجه ابن إسحق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما"، وفيه اختلاف في بعض الألفاظ عما هنا، وفي الدر أيضا أن ابن مردويه أخرج مثله عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أيضا في عبارة طويلة، وذكره ابن كثير من رواية ابن إسحق عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ومحمد بن أبي محمد قال عنه الحافظ بن حجر في التقريب: "شيخ لعبد الرزاق مجهول"، وابن عطية هنا يؤكد أن الآية مدنية على خلاف ما ذكره ابن كثير من أن المشهور أنها مكية، ولا يكون سبب النزول هو ما في هذا الحديث إلا إذا كانت الآية مدنية، والله أعلم.
[9384]:استدل النحويون بهذه الآية على بطلان ما ادعاه الزمخشري وغيره من أن خبر (إن) التي تأتي بعد (لو) لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا، بل يجب أن يكون فعلا، قالوا: هذا قول باطل، لأن [أقلام] هنا خبر [أن] وهي واقعة بعد (لو)، وهذا كثير في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأيما وقال آخر: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر تنبو الحوادث عنه وهو ملموم وأما ما ذكره ابن عطية من قول بعض النحويين: إن [البحر] بالرفع معطوف على [أن] لأنها في موضع رفع بالابتداء – فيحتاج إلى نظر، وذلك لأنه لا يجوز ذلك إلا إذا كانت (أن) بعد [لو] في موضع رفع على الابتداء، مع أن المشهور أن (لو) لا يليها المبتدأ اسما صريحا إلا في ضرورة شعر، نحو قول الشاعر: لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري وعلى هذا لا يجوز ذلك في الآية الكريمة، وإن كان بعض النحويين يجيزه.
[9385]:يقول الفراء: "والشيء إذا مد الشيء فزاد فكان زيادة فيه فهو يمده، تقول: دجلة تمد بئارها وأنهارها، والله يمدنا بها، وتقول : قد أمددتك بألف فمدوك".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} يعني علم الله.

لو أن كل شجرة ذات ساق على وجه الأرض بريت أقلاما، وكانت البحور السبعة مدادا، فكتب بتلك الأقلام، وجميع خلق الله عز وجل يكتبون من البحور السبعة، فكتبوا علم الله تعالى وعجائبه، لنفدت تلك الأقلام وتلك البحور، ولم ينفد علم الله وكلماته ولا عجائب.

{إن الله عزيز} في ملكه {حكيم} في أمره، يخبر الناس أن أحدا لا يدرك علمه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما، "والبَحْرُ يَمُدّهُ "يقول: والبحر له مداد، والهاء في قوله "يَمُدّهُ" عائدة على البحر.

وقوله: "منْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللّهِ" وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد، لتكسرت تلك الأقلام، ولنفد ذلك المداد، ولم تنفد كلمات الله... وقوله: "إنّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" يقول: إن الله ذو عزّة في انتقامه ممن أشرك به، وادّعى معه إلها غيره، حكيم في تدبيره خلقه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... يخرج على وجهين:

أحدهما: ما ذكرنا في قوله: {لله ما في السماوات والأرض} [لقمان: 26] أنه بلغ ملكه وسلطانه ما لو صار ما ذكر من الأشجار كلها أقلاما والبحار كلها مدادا، فكتب بها أسماء خلقه وملكه وسلطانه لنفذ ذلك كله، ولم ينفذ خلقه، ولم يبلغوا غاية ذلك.

والثاني: ذكر هذا في وصف القرآن لقول كان من الكفرة في قلته في نفسه وصغر ما كتب فيه أن يقولوا: كيف يسع في هذا المقدار علم الكتب السالفة المتقدمة وهي أوقار، وهو جزء؟ فيخبر، والله أعلم:

أنه جمع في هذا من المعاني والعلم والحكمة ما لو فسره، وبين ما أودع فيه، وضمنه كما لو جعل ما في الأرض من الشجر أقلاما والبحار مدادا، فكتب فيه ما أودع فيه، وضمنه، لتعذر ذلك كله، ولم ينفد ما جمع فيه، وضمنه. هذا، والله أعلم، يشبه أن يكون تأويله وسبب نزوله، والله أعلم، بذلك {إن الله عزيز حكيم}.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

قوله تعالى: {وَلَو أَنّ َمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ..} الآية. وفي سبب نزولها قولان:

أحدهما: ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام -يعني القرآن- يوشك أن ينفد، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلاماً ومع البحر سبعة أبحر مداداً لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه.

ومعنى: {يَمُدُّهُ} أي يزيد فيه شيئاً بعد شيء فيقال في الزيادة مددته وفي المعونة أمددته.

{مَا نَفَدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة: نفد.

في {كَلِمَاتُ اللُّهِ} هنا أربعة أوجه:

...

...

...

الثالث: جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والآية تقتضي أنه ليس لكلمات الله نهاية بالحكم، لأنه يقدر منها على ما لا نهاية له.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، وأيضاً فإن الآية إنما تضمنت أن {كلمات الله} لم تكن لتنفد، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه «الأقلام» والبحور،...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

إن عدم نفاد كلمات الله تعالى وإنها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلل بالأسباب. فتأمل ذلك.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{إن الله عزيز}: كامل القدرة، فمقدوراته لا نهاية لها. {حكيم}: كامل العلم، فمعلوماته لا نهاية لها.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبت أنه على غير ذلك، بل لا حد لغناه، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه، فقال: {ولو} أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو {أنّ ما في الأرض} أي كلها، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله: {من شجرة} حيث وحدها {أقلام} أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام {والبحر} أي والحال أن البحر، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير: ولو أن البحر {يمده} أي يكون مدداً وزيادة فيه {من بعده} أي من ورائه {سبعة أبحر} فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله {ما نفدت} وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل: {كلمات الله} وفنيت الأقلام والمداد، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى، ويتبع الكلمات الإبداع، فلا تكون كلمة إلا لإحداث شأن من الشؤون

إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى، ولا تضاهى، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة، وعدم البعث إنكار للحكمة: {إن الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً {عزيز} أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء {حكيم} يحكم ما أراده، فلا يقدر أحد على نقضه، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، وهو من عظيم هذا الفن، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها، وأن المراد بجمع القلة في "أبحر "الكثرة، لقرينة المبالغة، وبجمع القلة في {كلمات} حقيقتها لينتظم المعنى، وكل ذلك سائغ شائع في لغة العرب.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

والآن تختم هذه الجولة بمشهد كوني يرمز إلى غنى الله الذي لا ينفد، وعلمه الذي لا يحد، وقدرته على الخلق والتكوين المتجددين بغير ما نهاية، ومشيئته المطلقة التي لا نهاية لما تريد:

ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، ما نفدت كلمات الله. إن الله عزيز حكيم. ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة. إن الله سميع بصير..

إنه مشهد منتزع من معلومات البشر ومشاهداتهم المحدودة، ليقرب إلى تصورهم معنى تجدد المشيئة الذي ليس له حدود؛ والذي لا يكاد تصورهم البشري يدركه بغير هذا التجسيم والتمثيل.

إن البشر يكتبون علمهم، ويسجلون قولهم، ويمضون أوامرهم، عن طريق كتابتها بأقلام -كانت تتخذ من الغاب والبوص- يمدونها بمداد من الحبر ونحوه. لا يزيد هذا الحبر على ملء دواة أو ملء زجاجة! فها هو ذا يمثل لهم أن جميع ما في الأرض من شجر تحول أقلاما. و جميع ما في الأرض من بحر تحول مدادا. بل إن هذا البحر أمدته سبعة أبحر كذلك.. وجلس الكتاب يسجلون كلمات الله المتجددة، الدالة على علمه، المعبرة عن مشيئته.. فماذا؟ لقد نفدت الأقلام ونفد المداد. نفدت الأشجار ونفدت البحار.. و كلمات الله باقية لم تنفد، ولم تأت لها نهاية.. إنه المحدود يواجه غير المحدود. ومهما يبلغ المحدود فسينتهي؛ ويبقى غير المحدود لم ينقص شيئا على الإطلاق.. إن كلمات الله لا تنفد، لأن علمه لا يحد، ولأن إرادته لا تكف، ولأن مشيئته -سبحانه- ماضية ليس لها حدود ولا قيود.

وتتوارى الأشجار والبحار، وتنزوي الأحياء والأشياء؛ وتتوارى الأشكال والأحوال. ويقف القلب البشري خاشعا أمام جلال الخالق الباقي الذي لا يتحول ولا يتبدل ولا يغيب؛ وأمام قدرة الخالق القوي المدبر الحكيم: إن الله عزيز حكيم..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لو شاء أن يبلغ ما في علمه لما وفّت به مخلوقاته الصالحة لتسجيل كلامه بالكتابة فضلاً على الوفاء بإبلاغ ذلك بواسطة القول. وقد سُلك في هذا مسلك التقريب بضرب هذا المثل...

و {كلمات} جمع كلمة بمعنى الكلام كما في قوله تعالى: {كَلاَّ إنها كلمةٌ هو قائلها} [المؤمنون: 100] أي: الكلام المنبئ عن مراد الله من بعض مخلوقاته مما يخاطب به ملائكته وغيرَهم من المخلوقات والعناصر المعدودة للتكون التي يقال لها: كن فتكون، ومن ذلك ما أنزله من الوحي إلى رسله وأنبيائه من أول أزمنة الأنبياء وما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم أي لو فُرض إرادة الله أن يكتب كلامَه كله صُحفاً ففُرضت الأشجار كلها مقسمة أقلاماً، وفرض أن يكون البحر مداداً فكُتب بتلك الأقلام وذلك المدادِ لنفِد البحر ونفِدت الأقلام وما نفدت كلمات الله في نفس الأمر...

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

كلمات الله: المتبادر أنها تعني آياته ومخلوقاته ومشاهد ربوبيته ونواميسه الكونية وحكمه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

لماذا جعل الإمداد للماء، ولم يجعله للشجر؟ قالوا: لأن القلم الواحد يكتب بحبر كثير لا حصر له، فالحبر مظنة الانتهاء، كما أن الشجر ينمو ويتجدد، أما ماء البحر فثابت لا يزيد.

"كَلِمَاتُ اللَّهِ".. هي "كن "وكل مرادات الله في كونه، ما علمنا منه وما سنعلم، وما لم نعلم إلا حين تقوم الساعة.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

إنّ القرآن الكريم ولأجل تجسيد علم الله اللامتناهي يقول: (ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إنّ الله عزيز حكيم).

«يمدّه» من مادّة (المداد) وهي بمعنى الحبر أو المادّة الملوّنة التي يكتبون بها، وهي في الأصل من (مدّ) بمعنى الخطّ، لأنّ الخطوط تظهر على صفحة الورق بواسطة جرّ القلم.

ونقل بعض المفسّرين معنى آخر لها، وهو الزيت الذي يوضع في السراج ويسبّب إنارة السراج. وكلا المعنيين في الواقع يرجعان إلى أصل واحد.

«الكلمات» جمع «كلمة»، وهي في الأصل الألفاظ التي يتحدّث ويتكلّم بها الإنسان، ثمّ أطلقت على معنى أوسع، وهو كلّ شيء يمكنه أن يبيّن المراد والمطلب، ولمّا كانت مخلوقات هذا العالم المختلفة يبيّن كلّ منها ذات الله المقدّسة وعظمته، فقد أطلق على كلّ موجود (كلمة الله)، واستعمل هذا التعبير خاصّة في الموجودات الأشرف والأعظم، كما نقرأ في شأن المسيح في الآية (171) من سورة النساء (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته) ثمّ استعملت كلمات الله بمعنى علم الله لهذه المناسبة.

والآن يجب أن نفكّر بدقّة وبشكل صحيح بأنّه قد يكفي أحياناً قلم واحد مع مقدار من الحبر لكتابة كلّ المعلومات التي تتعلّق بإنسان ما، بل قد يكون من الممكن أن يسجّل أفراد آخرون مجموعة معلوماتهم على الأوراق بنفس ذلك القلم، إلاّ أنّ القرآن يقول: لو أنّ كلّ الأشجار الموجودة على سطح الأرض تصبح أقلاماً ونحن نعلم أنّه قد تصنع من شجرة ضخمة، من ساقها وأغصانها، آلاف، بل ملايين الأقلام، ومع الأخذ بنظر الاعتبار المقدار العظيم للأشجار الموجودة في الأرض، والغابات التي تغطّي الكثير من الجبال والسهول، وعدد الأقلام الذي سينتج منها..

وكذلك لو كانت كلّ البحار والمحيطات الموجودة، والتي تشكّل ثلاثة أرباع الكرة الأرضيّة تقريباً، بذلك العمق الساحق، تصبح حبراً، عند ذلك يتّضح عظمة ما سيكتب، وكم من العلوم يمكن كتابتها بهذا المقدار من الأقلام والحبر! سيّما مع ملاحظة مضاعفة ذلك بإضافة سبعة أبحر أخرى، وكلّ واحد منها يعادل كلّ محيطات الأرض، وبالأخصّ إذا علمنا أنّ عدد السبعة هنا لا يعني العدد، بل للكثرة والإشارة إلى البحار التي لا عدّ لها، فعند ذلك ستّتضح سعة علم الله عزّ وجلّ وترامي أطرافه، ومع ذلك فإنّ كلّ هذه الأقلام والمحابر تنتهي ولكنّ علومه سبحانه لا تعرف النهاية.

هل يوجد تجسيد وتصوير للاّنهاية أروع وأبلغ وأجمل من هذا التجسيد؟ إنّ هذا العدد حيّ وناطق إلى الحدّ الذي يصطحب معه أمواج فكر الإنسان إلى الآفاق اللامحدودة، ويغرقها في الحيرة والهيبة والجلال.

إنّ الإنسان يشعر مع هذا البيان البليغ الواضح أنّ معلوماته مقابل علم الله كالصفر مقابل اللانهاية، ويليق به أن يقول فقط: إنّ علمي قد أوصلني إلى أن أطّلع على جهلي، فحتّى التشبيه بالقطرة من البحر لتبيان هذه الحقيقة لا يبدو صحيحاً.

ومن جملة المسائل اللطيفة التي تلاحظ في الآية: أنّ الشجرة قد وردت بصيغة المفرد، والأقلام قد وردت بصيغة الجمع، وهذا تبيان لعدد الأقلام الكثيرة التي تنتج من شجرة واحدة بساقها وأغصانها.

وكذلك التعبير ب (البحر) بصيغة المفرد مع (الف ولام) الجنس ليشمل كلّ البحار والمحيطات على وجه الأرض، خاصّة وأنّ كلّ بحار العالم ومحيطاته متّصلة ببعضها، وهي في الواقع بحكم بحر واسع.

والطريف في الأمر أنّه لا يتحدّث في مورد الأقلام عن أقلام إضافية ومساعدة، أمّا فيما يتعلّق بالبحار فإنّه يتحدّث عن سبعة أبحر أخرى، لأنّ القلم يستهلك قليلا أثناء الكتابة، والذي يستهلك أكثر هو الحبر.

انتخاب كلمة (سبع) للكثرة في لغة العرب، ربّما كان بسبب أنّ السابقين كانوا يعتقدون أنّ عدد كواكب المنظومة الشمسية سبعة كواكب وفي أنّ ما يرى اليوم بالعين المجرّدة من المنظومة الشمسية سبعة كواكب لا أكثر ومع ملاحظة أنّ الأسبوع دورة زمانية كاملة تتكوّن من سبعة أيّام لا أكثر، وأنّهم كانوا يقسّمون كلّ الكرة الأرضية إلى سبع مناطق، وكانوا قد وضعوا لها اسم الأقاليم السبعة، سيتّضح لماذا انتخب عدد السبعة كعدد كامل من بين الأعداد، واستعمل لبيان الكثرة.