السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

ولما قال تعالى { لله ما في السماوات والأرض } أوهم تناهي ملكه لانحصار ما في السماوات والأرض فيهما وحكم العقل الصريح بتناهيهما ، بين تعالى أنه لأحد ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده بقوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض } أي : كلها ، ودل على الاستغراق وتقضي كل فرد فرد من أفراد الجنس بقوله تعالى : { من شجرة } حيث وحدها { أقلام } أي : والشجرة يمدّها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات وأنّ ما في الأرض من البحر مداد لتلك الأقلام { والبحر } أي : والحال أنّ البحر { يمده } أي : يكون مداداً له وزيادة فيه { من بعده } أي : من ورائه { سبعة أبحر } تكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة { ما نفدت كلمات الله } وفنيت الأقلام والمداد ، قال المفسرون : نزل بمكة قوله تعالى : { ويسألونك عن الروح } ( الإسراء ، 85 ) الآية فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أحبار اليهود فقالوا يا محمد بلغنا أنك تقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أفعنيتنا أم قومك فقال صلى الله عليه وسلم : «كلاًّ قد عنيت ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنّا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال صلى الله عليه وسلم : هي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن عملتم به انتفعتم ، قالوا : يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً فكيف يجتمع هذا علم قليل وخير كثير ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية » ، وقال قتادة إنّ المشركين قالوا : إن القرآن وما يأتي به محمد يوشك أن ينفد فينقطع فنزلت ، فإن قيل كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام والبحر مداد ؟ أجيب : بأنه أغنى عن ذكر المداد قوله تعالى يمدّه لأنه من مدّ الدواة وأمدّها جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً فهي تصب فيه مدادها أبداً صباً لا ينقطع ، والمعنى : ولو أن أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد كقوله تعالى { قل لو كان البحر مداد لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي } ( الكهف : 109 ) لأنّ المحصور لا يفي بما ليس بمحصور ، فيا لها من عظمة لا تتناهى ، ومن كبرياء لا يجارى ولا يضاهى .

فإن قيل لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس ؟ أجيب : بأنه أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاماً ، فإن قيل الكلمات جمع قلة والموضع موضع التكثير لا التقليل فهلا قيل كلم الله ؟ أجيب : بأنّ معناه أنّ كلماته لا تفي بها البحار فكيف بكلمه ، وقرأ أبو عمرو : والبحر بنصب الراء وذلك من وجهين : أحدهما : العطف على اسم أن ، أي : ولو أنّ البحر ، ويمدّه الخبر ، والثاني : النصب بفعل مضمر يفسره يمدّه والواو حينئذ للحال والجملة حالية ، ولم يحتج إلى ضمير رابط بين الحال وصاحبها للاستغناء عنه بالواو ، والتقدير : ولو أنّ الذي في الأرض حال كون البحر ممدوداً بكذا ، وقرأ الباقون برفع الراء وذلك من وجهين : أيضاً أحدهما : العطف على أن وما في حيزها ، والثاني : أنه مبتدأ ، ويمدّه الخبر ، والجملة حالية والرابط الواو .

تنبيه : قوله تعالى سبعة ، ليس لانحصارها في سبعة وإنما الإشارة إلى المدد والكثرة ولو بألف بحر ، وإنما خصصت السبعة بالذكر من بين الأعداد لأنها عدد كثير يحصر المعدودات في العادة ، ويدل على ذلك وجهان : الأوّل : أن المعلوم عند كل أحد لحاجته إليه هو الزمان والمكان فالزمان منحصر في سبعة أيام والمكان منحصر في سبعة أقاليم ، ولأنّ الكواكب السيارة سبعة والمنجمون ينسبون إليها أموراً فصارت السبعة كالعدد الحاصر للكثرات الواقعة في العادة فاستعملت في كل كثير .

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء » الثاني : أن في السبعة معنى يخصها ولذلك كانت السماوات سبعاً والأرضون سبعاً وأبواب جهنم سبعاً وأبواب الجنة ثمانية ، لأنها الحسنى وزيادة ، فالزيادة هي الثامن ؛ لأن العرب عند الثامن يزيدون واو تقول القراء لها واو الثمانية وليس ذلك إلا للإستئناف لأنّ العدد تم بالسبعة ، ثم بين نتيجة ذلك بقوله تعالى : { إن الله } أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { عزيز } أي : كامل القدرة لا نهاية لمقدوراته { حكيم } أي : كامل العلم لا نهاية لمعلوماته .

تنبيه : قد علم مما تقرّر أنّ الآية من الاحتباك ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار .