الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} (27)

قرىء : «والبحر » بالنصب عطفاً على اسم إنّ ، وبالرفع عطفاً على محل إن ومعمولها على معنى : ولو ثبت كون الأشجار أقلاماً ، وثبت كون البحر ممدوداً بسبعة أبحر . أو على الابتداء والواو للحال ، على معنى . ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدوداً ، وفي قراءة ابن مسعود : و«بحر يمدّه » على التنكير ، ويجب أن يحمل هذا على الوجه الأوّل . وقرىء : «تمدّه » و«يمدّه » بالتاء والياء .

فإن قلت : كان مقتضى الكلام أن يقال : ولو أنّ الشجر أقلام ، والبحر مداد . قلت : أغنى عن ذكر المداد قوله : يمدّه ، لأنه من قولك : مدّ الدواة وأمدّها ، جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مداداً ، فهي تصب فيه مداداً أبداً صباً لا ينقطع . والمعنى : ولو أنّ أشجار الأرض أقلام ، والبحر ممدود بسبعة أبحر . وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد ، كقوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } [ الكهف : 109 ] .

فإن قلت : زعمت أنّ قوله : { والبحر يَمُدُّهُ } حال في أحد وجهي الرفع ، وليس فيه ضمير راجع إلى ذي الحال . قلت : هو كقوله :

وَقَدِ اغْتَدَى وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا ***

و : جئت والجيش مصطف . وما أشبه ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظروف . ويجوز أن يكون المعنى : وبحرها ، والضمير للأرض .

فإن قلت : لم قيل : { مِن شَجَرَةٍ } على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر ؟ قلت : أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة ، حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاماً .

فإن قلت : الكلمات جمع قلة ، والموضع موضع التكثير لا التقليل . فهلا قيل : كلم الله ؟ قلت : معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار ، فكيف بكلمه ؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنها نزلت جواباً لليهود لما قالوا : «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة » وقيل : إن المشركين قالوا : إنّ هذا - يعنون الوحي - كلام سينفد ، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد . وهذه الآية عند بعضهم مدنية ، وأنها نزلت بعد الهجرة ، وقيل هي مكية ، وإنما أمر اليهود وفد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألست تتلو فيما أنزل عليك : أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء { أَنَّ الله عَزِيزٌ } لا يعجزه شيء { حَكِيمٌ } لا يخرج من علمه وحكمته شيء ، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه .