المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{۞يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِۖ قُلۡ فِيهِمَآ إِثۡمٞ كَبِيرٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثۡمُهُمَآ أَكۡبَرُ مِن نَّفۡعِهِمَاۗ وَيَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلِ ٱلۡعَفۡوَۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَتَفَكَّرُونَ} (219)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 219 )

وقوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية( {[2046]} ) ، السائلون هم المؤمنون ، و { الخمر } مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «خمروا الإناء »( {[2047]} ) ، ومنه خمار المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، ومنه قول الشاعر :

ألا يا زيد والضحاك سيرا . . . فقد جاوزتما خمر الطريق( {[2048]} )

أي سيرا مدلين( {[2049]} ) فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره ، ومنه قول العجاج :

في لامِعِ العقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمر . . . ( {[2050]} ) يصف جيشاً جاء برايات غير مستخف ، ومنه قولهم دخل فلان في غمار الناس وخمارهم( {[2051]} ) ، أي هو بمكان خاف ، فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطي عليه سميت بذلك ، والخمر ماء العنب الذي غلي( {[2052]} ) ولم يطبخ أو طبخ طبخاً لم يكف غليانه ، وما خامر العقل من غير ذلك فهو في ( {[2053]} )حكمه . قال أبو حنيفة : قد تكون الخمر من الحبوب ، قال ابن سيده : وأظنه تسفحاً منه ، لأن حقيقة الخمر إنما هي ماء العنب دون سائر الأشياء ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الخمر من هاتين الشجرتين : العنب والنخلة » ، وحرمت الخمر بالمدينة يوم حرمت وهي من العسل والزبيب والتمر والشعير والقمح ، ولم تكن عندهم خمر عنب ، وأجمعت الأمة على خمر العنب إذا غلت ورمت بالزبد أنها حرام قليلها وكثيرها ، وأن الحد واجب في القليل منها والكثير ، وجمهور الأمة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره . والحد في ذلك واجب . وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فما لا يسكر منه حلال ، وإذا سكر أحد منه دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف يرده النظر( {[2054]} ) ، وأبو بكر الصديق وعمر الفاروق والصحابة على خلافه ، وروي أن النبي عليه السلام قال : «كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وما أسكر كثيره فقليله حرام »( {[2055]} ) ، قال ابن المنذر في الإشراف : «لم يبق هذا الخبر مقالة لقائل ولا حجة لمحتج » ، وروي أن هذه الآية أول( {[2056]} ) تطرق إلى تحريم الخمر ، ثم بعده { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }( {[2057]} ) [ النساء : 43 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ، ثم قوله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه }( {[2058]} ) [ المائدة : 90 ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حرمت الخمر » ، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين ، خرجه مسلم وأبو داود ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ضرب فيها ضرباً مشاعاً ، وحزره أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ثم عمر ، ثم تهافت الناس فيها فشدد عليهم الحد وجعله كأخف الحدود ثمانين ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي بالأربعين ، وضرب الخمر غير شديد عند جماعة العلماء ولا يبدو إبط الضارب ، وقال مالك : «الضرب كله سواء لا يخفف ولا يبرح » ، ويجتنب من المضروب الوجه والفرج والقلب والدماغ والخواصر بإجماع ، وقالت طائفة : هذه الآية منسوخة بقوله : { فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة : 90 ] ، يريد ما في قوله { ومنافع للناس } من الإباحة والإشارة إلى الترخيص( {[2059]} ) .

و { الميسر } مأخوذ من يسر إذا جزر ، والياسر الجازر( {[2060]} ) ، ومنه قول الشاعر :

فلَمْ يَزَلْ بِكَ واشيهمْ وَمَكْرُهُمْ . . . حتَّى أَشَاطُوا بِغْيبٍ لَحْمَ مَنْ يَسَرُوا( {[2061]} )

ومنه قول الآخر :

أقُولُ لَهُمْ بِالشَّعْبِ إذْ يَيْسِرونني . . . أَلَمْ تَيْأسُوا إنّي ابْنُ فَارِسِ زهدمِ ؟( {[2062]} )

والجزور الذي يستهم عليه يسمى ميسراً لأنه موضع اليسر ، ثم قيل للسهام ميسر للمجاورة . وقال الطبري : «الميسر مأخوذ من يسر لي هذا إذا وجب وتسنى » ، ونسب القول إلى مجاهد ، ثم جلب من نص كلام مجاهد ما هو خلاف لقوله ، بل أراد مجاهد الجزر( {[2063]} ) ، واليسر : الذي يدخل في الضرب بالقداح ، وجمعه أيسار وقيل يسر جمع ياسر ، كحارس وحرس وأحراس ، وسهام الميسر سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدة الحظوظ ، وثلاثة لا حظوظ لها ، ولا فروض فيها ، وهي( {[2064]} ) الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى ، والثلاثة التي لا حظوظ لها المنيح والسفيح والوغد ، تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام وتختلط على الحرضة( {[2065]} ) وهو الضارب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء ، تشتري الجزور ويضمن الأيسار ثمنها ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام ، وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور ، فذكر أنها كانت على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرين قسماً ، وليس كذلك( {[2066]} ) ، ثم يضرب على العشرة الأقسام ، فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدماً أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء ، وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه .

ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي ، ومنه قول الأعشى : [ السريع ]

المطعمو الضيف إذا ما شتا . . . والجاعلو القوت على الياسر( {[2067]} )

ومنه قول الآخر : [ الطويل ]

بأيديهمُ مَقْرومَةٌ وَمَغَالقٌ . . . يَعُودُ بأرزاقِ العُفَاةِ مَنِيحُها( {[2068]} )

والمنيح في هذا البيت المستمنح ، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه ، فلذلك المنيح الممدوح( {[2069]} ) ، وأما المنيح الذي هو أحد الثلاثة الأغفال ، فذلك إنما يوصف بالكر ، وإياه أراد جرير بقوله : [ الكامل ]

وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً . . . كَرَّ الْمَنيحِ وَجُلْنَ ثمَّ مَجَالاَ( {[2070]} )

ومن الميسر قول لبيد :

[ الطويل ]

وإذا يَسِرُوا لَمْ يُورِثِ الْيُسْرُ بَيْنَهُمْ . . . فَوَاحِش يُنْعى ذكرُها بِالْمَصَايِفِ( {[2071]} )

فهذا كله هو نفع الميسر( {[2072]} ) ، إلى أنه أكل المال بالباطل ، ففيه إثم كبير ، وقال محمد بن سيرين والحسن وابن عباس وابن المسيب وغيرهم : كل قمار ميسر( {[2073]} ) من نرد وشطرنج ونحوه حتى لعب الصبيان بالجوز .

وقوله تعالى : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية( {[2074]} ) والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :

وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً . . . وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا اللقَاءُ( {[2075]} )

إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : «المنفعةَ بها كسب أثمانها » ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي «كثير » بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و «كثير » بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس «كبير » بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على { أكبر } حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه «قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر » بالثاء مثلثة في الحرفين ، وقوله تعالى : «فيهما إثم » يحتمل مقصدين ، أحدهما أن يراد في استعمالهما بعد النهي ، والآخر أن يراد خلال السوء التي فيهما ، وقال سعيد بن جبير : لما نزلت { قل فيهما إثم كبير( {[2076]} ) ومنافع للناس } كرهها قوم للإثم وشربها قوم للمنافع ، فلما نزلت :{ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] تجنبوها عند أوقات الصلوات الخمس ، فلما نزلت { إنما الخمر والمسير والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }( {[2077]} ) [ المائدة : 90 ] قال عمر بن الخطاب : ضيعة لك اليوم قرنت بالميسر والأنصاب ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حرمت الخمر .

ولما سمع عمر بن الخطاب قوله تعالى : { فهل أنتمْ منتهون } [ المائدة : 91 ] قال : «انتهينا ، انتهينا » ، قال الفارسي : وقال بعض أهل النظر : حرمت الخمر بهذه الآية لأن الله تعالى قال : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم } [ الأعراف : 33 ] ، وأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً ، فهي حرام .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ليس هذ النظر بجيد لأن الإثم( {[2078]} ) الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر( {[2079]} ) ، وقال قتادة : ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها .

وقوله تعالى : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قال قيس بن سعد : «هذه الزكاة المفروضة » . وقال جمهور العلماء : بل هي نفقات التطوع . وقال بعضهم : نسخت بالزكاة . وقال آخرون : هي محكمة( {[2080]} ) وفي المال حق سوى الزكاة . و { العفو } : هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله . ونحو هذا هي عبارة المفسرين : وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر ، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : «من كان له فضل فلينفقه على نفسه ، ثم على من يعول ، فإن فضل شيء فليتصدق به »( {[2081]} ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : «خير الصدقة ما أبقت غنى » ، وفي حديث آخر : «ما كان عن ظهر غنى »( {[2082]} ) .

وقرأ جمهور الناس «العفو » بالنصب ، وقرأ أبو عمرو وحده «العفُو » بالرفع ، واختلف عن ابن كثير( {[2083]} ) ، وهذا ( {[2084]} )متركب على { ماذا } ، فمن جعل «ما » ابتداء و «ذا » خبره بمعنى الذي وقدر الضمير في { ينفقونه } عائداً قرأ «العفوُ » بالرفع ، لتصح مناسبة الجمل ، ورفعه على الابتداء تقديره العفو إنفاقكم ، أو الذي تنفقون العفو( {[2085]} ) ، ومن جعل { ماذا } اسماً واحداً مفعولاً ب { ينفقون } ، قرأ «قل العفوَ » بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع «العفوُ » مع نصب «ما » جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها .

وقوله تعالى : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون } الإشارة إلى ما تقدم تبيينه من أمر الخمر والميسر والإنفاق ، وأخبر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم إلى الفكرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريق النجاة لمن تنفعه فكرته ، وقال مكي : «معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة تدل عليهما وعلى منزلتيهما لعلهم يتفكرون في تلك الآيات ، فقوله { في الدنيا } متعلق( {[2086]} ) على هذا التأويل ب { الآيات } ، وعلى التأويل الأول وهو المشهور عن ابن عباس وغيره يتعلق { في الدنيا } ب { تتفكرون } .


[2046]:- حرم الله الخمر بالتدريج لأن جريان العمل بالتدريج جار على المصلحة والتأنيس، ومن هنا كان نزول القرآن نجوما في نحو عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئا فشيئا، ولم ينزل جملة واحدة لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة، ويحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: مالك لا تنفذ الأمور ؟ فو الله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة. وسبب نزول الآية سؤال عمر ومعاذ – قالا: يا رسول الله. أفتنا في الخمر والميسر، فإنه مذهبة للعقل، مسلبة للمال.
[2047]:- أخرجه البخاري ومسلم، ولفظ البخاري: (خمِّروا الآنية، وأوكوا الأسقية) الخ ولفظ مسلم: (غطوا الإناس وأوكوا السقاءَ) الخ.
[2048]:- البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن، إلا أنه لم ينسبه إلى معين. و(الضحاك) منصوب بالعطف على محل (زيد)، أو مرفوع بالعطف على لفظ (زيد)، وقد قال ابن مالك: وإن يكُنْ مَصْحُـوبَ الْ ما نُسِّقَــا ففِيه وجهـان وَرَفْعٌ يُنْتَقَــى
[2049]:- المُدل: الواثق بنفسه وبسلاحه وعُدَّته.
[2050]:- تمامه: .................................. يُوَجِّه الأرضَ ويَسْتَاقُ الشَّجَـرْ والعقبان: جمع عقاب وهي الرايات. والخمر بالفتح: الشجر، ويوجِّه الأرض: أي يجعلها جهة واحدة، ويستاق الشجر: أي يقتلعه حتى تكون الأرض وجها واحدا لكثرته.
[2051]:- أي في جمعهم، أي اختلط بهم واختفى بينهم – وغمار- كما في اللسان – بضم الغين وبفتحها.
[2052]:- يقال: غَلَت القِدر، ولا يقال: غَلِيت القِدر، وقد قيل في ذلك: ولا أقول لقِدْر القَـوْم قد غَلِيَــتْ ولا أقول لباب الدّار مَغْلُــوقُ وفي الزمخشري ما نصه: والخمر ما غلي واشتد وقذف بالزبد من عصير العنب، وهو حرام، وكذلك نقيع الزبيب أو التمر الذي لم يطبخ، فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه، ثم غلي واشتد ذهب خَبَثُه ونصيبُ الشيطان، وحلَّ شُرب ما دون المُسْكر إلخ. تأمل. وحاصل مذهب الإمام مالك رحمه الله هو قول أبي الوليد الباجي عند قول الموطأ: (قال مالك: السّنة عندنا أن كل من شرب شرابا مُسْكرا فسكر أو لم يسكر فقد وجب عليه الحد، سكر أو لم يسكر، هذا مذهب أهل المدينة مالك وغيره وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ما خرج من النخل والكرم فقليله وكثيره حرام ما لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، وما عدا ما يخرج من النخل والكرم فهو حلال من غير طبخ إلا أن المسكر منه حرام. وهذه مسألة قد كان أصحاب أبي حنيفة يجحدونها ولا يرون المناظرة فيها، ويقولون: إن السائل عنها إنما يذهب إلى التشنيع والتوبيخ، وذلك أنه لطول الأمد ووصول الأدلة إليهم وتكررها عليهم تبين لهم ما فيها، إلا أنهم –مع ذلك- يدونونها في كتبهم بألفاظ ليس فيها ذلك التصريح، ويتأولونها على أوجه تحقق أمرها عندهم، ولنا في هذه المسألة طريقان أحدهما: إثبات اسم الخمر لكل مسكر، والثاني: إثبات التحريم لكل مسكر، فأما الأول فإن مذهب مالك والشافعي أن اسم الخمر يقع على كل شراب مسكر من عنب كان أو من غيره، وقال أبو حنيفة: إنما الخمر اسم المسكر من عصير العنب ما لم يطبخ الطبخ المذكور، والدليل على ما نقوله ما روي عن ابن عمر أنه قال: خطب عمر على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء – العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل، والخمر ما خامر العقل». فوجه الدليل من هذا الخبر أن عمر بن الخطاب قال: إن الخمر يكون من هذه الخمسة أشياء، وعمر من أهل اللسان، فلو انفرد بهذا القول لاحتج بقوله، فكيف وقد خطب بذلك بحضرة قريش والعرب والعجم وسائر المسلمين فلم ينكر ذلك عليه ؟ فثبت أنه إجماع، ووجه آخر وهو أنه قال: «والخمر ما خامر العقل»، فكل ما خامر العقل فإنه يسمى الخمر، والدليل على أن كل مسكر حرام قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؟] فلنا من الآية أدلة بيّنها وأنهاها إلى خمسة – وقال متصلا بذلك ما نصه: «ودليلنا من السنة ما رواه أبو داود عن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). ودليلنا من جهة القياس أن هذا شراب فيه شدة مطربة فوجب أن يكون قليله حراما أصله عصير العنب والله أعلم» اهـ. فتأمل مذهب مالك رحمه الله، ومذهب أبي حنيفة، وتدبر قول ابن عطية: «ولم يطبخ»، فإن مالكا رحمه الله لا ينظر إلا إلى السكر، ومعنى قوله: «طبخ حتى ذهب منه الثلثان» أنه طبخ حتى ذهبت مائيته التي يسرع بها تغيّره، ويحدث بها فساده، ثم إن قول عمر رضي الله عنه: «والخمر ما خامر العقل، والحقيقة الشرعية مقدمة على الحقيقة اللغوية إذا فرضنا أن الخمر لغة هو ما يُتَّخذ من العنب، وحاصل الأمر أن الخمر محرمة بجميع أنواعها وأجناسها، اتخذت من العنب أو من غيره، لا فرق بين القليل والكثير منها، لأن العلة هي الخمرية، وليست المادة التي يحصل بها السكر كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) رواه الإمام مسلم وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام). أي من دون أن تمسه النار، فعصير العنب حين يغلي ويقذف بالزبد من دون ذلك اتفق الفقهاء على أنه خمر. تنبيه: اشتهر بين أهل الأدب قول ابن الرومي: أحلَ العِـراقِيُّ النبيذَ وشُرْبَـهُ وقال: حَرامَانِ المُدَامَةُ والسُّكْـرُ وقال الحِجَازِيّ الشّرابانِ واحدٌ فحلَّتْ لنا منْ بيْنِ قَوْلَيهما الخمرُ أراد أن الخمر نبيذ، والنبيذ حلال، فالصغرى من المالكية، والكبرى من الحنفية، إلا أن الكبرى شرطها أن تكون كلية، والحنفية يخصون ذلك بالقدر الذي لم يسكر.
[2053]:- قال أبو عبد الله (ق): لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة فحرم كله قياسا على الميسر فكذلك الخمر هو من ماء العنب، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه.
[2054]:- أي القياس على خمر العنب، وكما يرده النظر يردّه الخبر الذي ذكره ابن عطية على الأثر وهو: (ما أسْكر كثيره فقليله حرام).
[2055]:- هذا رواه أصحاب السنن، وقوله: (كلّ مسكر خمر وكل خمر حرام) رواه الإمام مسلم، والدارقطني، ورواه الشيخان، وأصحاب السنن بلفظ: (كل مسكر خمر وكلّ مسكر حرام).
[2056]:- أي أول ما نزل في أمر الخمر وتحريمها.
[2057]:- من الآية (43) من سورة (النساء) وقد جعل الله في هذه الآية الكريمة الغاية التي يزول بها حكم السكران: أن يعلم ما يقول، فمتى لم يعلم ما يقول فهو في حال سكر، وإذا علم ما يقول فقد خرج عن حكم السكر. وهذا هو حد السكران عند جمهور اهل العلم، قيل للإمام أحمد رحمه الله: بماذا يعلم أنه سكران ؟ فقال: «إذا لم يعرف ثوبه من ثوب غيره، ونعله من نعل غيره»، ويذكر عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: «إذا اختلط كلامه المنظوم، وأفشى سره المكتوم». وقد حرم الله سبحانه السكر لشيئين ذكرهما في كتابه بقوله: [إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون] ؟ فأخبر سبحانه أن الخمر يوجب المفسدة الناشئة من النفس بوساطة زوال العقل، ويمنع المصلحة التي لا تتم إلا بالعقل.
[2058]:- الآيتان من سورة (المائدة) – الأولى رقم (91) والثانية رقم (90).
[2059]:- يعني أن مرادهم بالآية المنسوخة قوله تعالى: [ومنافع للناس] لما في ذلك من مظنة الإباحة والترخيص.
[2060]:- يقال الميسر للسهام المعروفة، وذلك قمار العرب، كما يقال للجزور التي ينحرونها ويجَزِّؤونها على حساب الميسر، فاسم الميسر يطلق على السهام وعلى الجزور.
[2061]:- هو الأخطل والبيت من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان.
[2062]:- الشاعر هو: سحيم بن وثيل اليربوعي، أو: جابر بن سحيم، وقوله ييسرونني أي: يَجْزُرُونَنِي ويقتسمونني إذ كان قد وقع عليه سباءٌ فضرب عليه بالسهام، وقوله: (ألم تيأسوا)، أي: ألم تعلموا أني ابن فارس زَهْدَم أي ابن راكب الفرس المسمّى بزَِهْدَم. والشعب بكسر الشين المشدودة مكان، واليأس بمعنى العلم. وزهدم اسم فرس مشهور، أي: ألم تعلموا أني ابن ذلك البطل الشجاع والفارس الذي يركب تلك الفرس – والاستفهام للتوبيخ أو للتقرير.
[2063]:- لقوله كما في تفسير الإمام (ط) رحمه الله: وإنما سمي المَيْسر لقولهم: أيسروا وأجزروا. ا هـ.
[2064]:- أي سهام المَيْسر السبعة، وأكثرها حظا المُعَلى، وأقلها حظّا الفذّ.
[2065]:- بضم الحاء وسكون الراء: أمين المقامرين، وهو الذي يخرج السهام من الربابة بعد أن يحركها مرتين أو ثلاثا. ويسمى أيضا المجيل والضارب والضريب.
[2066]:- ذكر الأصمعي أنهم كانوا يسمون الجزور على قدر حظوظ السهام وهي ثمانية وعشرون حظا. والحق أنها كانت تقسم على عدد السهام وهي عشرة، سبعة ذات حظوظ وثلاثة لا حظوظ لها، وهذا هو ما أشار إليه ابن عطية رحمه الله، وقد أصاب في اعتراضه على الأصمعي والله أعلم.
[2067]:- وفي رواية: (المطْعِمُ اللحم).
[2068]:- البيت لعمرو بن قمئة، والمقرومة الناقة التي لها قرم أي وسم بأنفها، وفي رواية بدل العفاة "العيال"، والمغالق وصف للسهام التي يكون لها الفوز.
[2069]:- المنيح قسمان: أحدهما قدح لا نصيب له، وثانيهما قدح يستعار تيمّنا بفوزه، فهو مستنيح أي مطلوب منه أن يمنح، وهذا هو المشار إليه في البيت.
[2070]:- البيت من قصيدة للأخطل يهجو بها جريراً، انظر ديوان الأخطل، ومطلعها: كَذَبَتْكَ عَيْيُكَ أو رأيْتَ بِوَاسِطٍ
[2071]:- أي إذا ضربوا الميسر لم يضربوها لأنفسهم بل لغيرهم، وقوله: ينعي ذكرها إلخ أي يرفع ذكرها في مجالس الصيف، وقد نسبه صاحب المفضليات إلى المرقش الأكبر من جملة قصيدة تحتوي على 16 بيتاً.
[2072]:- يعني أنه يعود على فقراء الحي بالنفع ولا سيما في شدة البرد وضيق الوقت، وكان العرب يفتخرون بالميسر لهذا الغرض ويذمون من لا يدخل فيه ويسمونه البرم.
[2073]:- قال الإمام مالك رحمه الله: الميسر ميسران – ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار ما يتخاطر الناس عليه فكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء.
[2074]:- سبق أن نبهنا إلى أن هذه الكلمة غير فصيحة، ولا تجري على قواعد اللغة، ولكنها كانت شائعة الاستعمال في بلاد المغرب.
[2075]:- النهنهة: الكفّ والزجر – يقال: نهنه فلانا عن الشيء كفَّه عنه زجره.
[2076]:- معنى إثم كبير: مضرة كبيرة، وعبَّر عن ذلك بالإثم الكبير لأنها تلزمه، ولقد أخبر سبحانه أن في الخمر مضرة ومنفعة، وكان القياس إذا أُريد انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم الكثير ويباح القليل من الخمر، ولكن لما غلب جانب المضرة على جانب المنفعة علمنا أن الخمر يحرم قليلها وكثيرها، وهذا ما أجمع عليه علماء الإٍسلام، وقد تقرر في أصول الشريعة أن المفسدة إذا أرْبت على المصلحة فالحكم للمفسدة ومِنْ ثمَّ رتب الشارع الحدَّ على الشرب، لا على زوال العقل. ومن مفاسدها: ذهاب العقل والدين وهما كل شيء، والسباب، والافتراء والإفحاش والتعدي الذي يكون من شاربها، ولا تسل عن الشرور التي تنشأ عنها: كقتل النفوس. والذي أدمن عليها ربما يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله، وقد جاء أن من أدمن الخمر كعابد وثن.
[2077]:- قوله تعالى: [لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكَارى] الخ من الآية (43) من سورة (النساء). وقوله تعالى: [إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه] الخ من الآية (90) من سورة المائدة.
[2078]:- من الآية (33) من سورة (الأعراف).
[2079]:- ولا ينفاي ذلك قول الشاعر: شَربْتُ الإثْم حتى ضلَّ عَقْلِـي كذاكَ الإثمُ يذهب بالعُقُــول لأن الله سبحانه لم يسمها في الآية إثما، وإنما قال: (فيهما إثم كبير) فما قاله ابن عطية رحمه الله صحيح وواضح.
[2080]:- الظاهر أنها محكمة، وأنها في نفقة التطوع كما قرره شيخ التفسير الإمام (ط) رحمه الله.
[2081]:- روى أبو داود حديث (إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى ذي قرابته أو ذوي رحمه، وإن كان فضل فها هنا وها هنا). وروى الإمام مسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: أعتق رجل عبداً له عن دبر فبلغ ذلك رسول الله فقال: (ألك مال غيره ؟ فقال لا. فقال: من يشتريه مني ؟ فاشتراه بعضهم بثمانمائة درهم. فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك)، وهو كناية عن تكثير الصدقة وتنويع جهاتها.
[2082]:- رواه البخاري ومسلم في رواية: (خير الصدقة عن ظهر غنى) ورواية: (لا صدقة إلا عن ظهر غنى) رواها الإمام أحمد، وعلقه البخاري في الوصايا. ورواية: (خير الصدقة ما أبقت غنى) رواها الطبراني عن ابن عباس في المعجم الكبير كما في الجامع الصغير وهي تفسير لقوله: (خير الصدقة عن ظهر غنى) كما قاله الإمام الخطابي، ورواية: (أفضل الصدقة ما ترك غنى) رواها البخاري وأحمد رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2083]:- يعني أنه رُوي عنه الرفع ورُوي عنه النصب.
[2084]:- أي اختلاف القراءتين بالرفع والنصب.
[2085]:- هذا أحسن مما قبله من وجهين أحدهما: أن المحدث عنه (ماذا ينفقون) فاللائق أن يكون العفو خبراً عن الذي ينفقونه، وثانيهما، أن تقدير الخبر مصدراً غير لائق، لأن السؤال ليس واقعا عنه. واعلم أنه يجوز من دون ضعف رفع (العفو) مع نصب (ماذا)، ونصبه مع رفع (ماذا)، وإنما الذي يفوت هو حسن تناسب الجملتين في كونهما اسميتين أو فعليتين.
[2086]:- أي مرتبط بها، وليس المراد التعلق المصطلح عليه عند النحاة كما هو ظاهر.