المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 67 )

وقوله تعالى : { وإذ قال موسى لقومه } الآية( {[757]} ) : { إذ } عطف على ما تقدم ، والمراد تذكيرهم بنقض سلفهم للميثاق ، وقرأ أبو عمرو «يأمرْكم » بإسكان الراء ، وروي عنه اختلاس الحركة ، وقد تقدم القول في مثله في «بارئكم »( {[758]} ) .

وسبب هذه الآية على ما روي ، أن رجلاً من بني إسرائيل أسنّ وكان له مال ، فاستبطأ ابن أخيه موته ، وقيل أخوه ، وقيل ابنا عمه ، وقيل ورثة كثير غير معينين ، فقتله ليرثه وألقاه في سبط آخر غير سبطه ، ليأخذ ديته ويلطخهم بدمه ، وقيل : كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين ، فألقاه إلى باب إحدى المدينتين ، وهي التي لم يقتل فيها ، ثم جعل يطلبه هو وسبطه حتى وجده قتيلاً ، فتعلق بالسبط أو بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها ، فأنكروا قتله ، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك لحاء( {[759]} ) حتى دخلوا في السلاح ، فقال أهل النهي منهم : أنقتل ورسول الله معنا ؟ فذهبوا إلى موسى عليه السلام فقصوا عليه القصة ، وسألوه البيان ، فأوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها ، فيحيى ويخبر بقاتله فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، فكان جوابهم أن قالوا : { أتتخذنا هزواً } ؟ .

قرأ الجحدري «أيتخذنا » بالياء ، على معنى أيتخذنا الله( {[760]} ) ، وقرأ حمزة : «هزْؤاً » بإسكان الزاي والهمز ، وهي لغة ، وقرأ عاصم بضم الزاي والهاء والهمز ، وقرأ أيضاً : دون همز «هزواً » ، حكاه أبو علي ، وقرأت طائفة من القراء بضم الهاء والزاء والهمزة بين بين ، وروي عن أبي جعفر وشيبة( {[761]} ) ضم الهاء وتشديد الزاي «هُزّاً » ، وهذا القول من بني إسرائيل ظاهره فساد اعتقاد ممن قاله ، ولا يصح الإيمان ممن يقول لنبي قد ظهرت معجزاته ، وقال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } ، { أتتخذنا هزواً } ، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره ، وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل( {[762]} ) للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : «إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله » ، وكما قال له الآخر : «اعدل يا محمد » ، وكلٌّ محتمل( {[763]} ) ، والله أعلم .


[757]:- قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم) الآية، مقدم من حيث التلاوة واللفظ، وقوله تعالى: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) مقدم من حيث المعنى على جميع ما ابتدئ به في شأن البقرة- لأن السبب مقدم على المسبب- ولأن المقرر في علم العربية أن الواو لمجرد الجمع من دون ترتيب وإنما لم تقص القصة على ترتيبها لمعان أشار إليها الزمخشري فارجع إليه.
[758]:- سبق عند قوله تعالى: (فتوبوا إلى بارئكم) أن أبا العباس المبرد أنكر هذا، وقال: لا يجوز، لأن الحرف حرف الإعراب، وقال: الصحيح عن أبي عمرو أنه كان يختلس الحركة ولا يسكنها. انظر هناك.
[759]:- أي نزاع ومخاصمة، ومنه: "من لاحاك فقد عاداك" وفي بعض النسخ "لجاج".
[760]:- أي: قال بعضهم لبعض: (أيتخذنا الله هزوا) والجحدري هو عاصم أحد القراء السبعة.
[761]:- هو ابن عمرو بن ميمون المعيصي، روى القراءة عن حماد بن سلمة عن عاصم، وروى القراءة عنه عيسى بن مهران القومسي.
[762]:- هو معتب بن قشير المنافق، والآخر هو المعروف بذي الخويصرة التميمي، وأخرج حديثهما البخاري ومسلم.
[763]:- أي أن هذا القول من بني إسرائيل يحتمل الكفر ويحتمل المعصية لبعد ما بين السؤال والجواب، وفي هذا ما يدل على قبح الجهل، وأنه مفسد للدين، وعلى منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين، وكل من يجب تعظيمه. والمزاح ليس من الاستهزاء- فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا صدقا، وكذلك الأئمة بعده.