المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

«الآية » العلامة ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إن زكرياء قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك والبشارة حق ، فاجعل لي علامة أعرف صحة ذلك بها ، فعوقب على هذا الشك في أمر الله ، بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس ، وقالت فرفة من المفسرين : لم يشك قط زكرياء وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له { كذلك الله يفعل ما يشاء } [ آل عمران : 40 ] سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يحمل بيحيى .

واختلف المفسرون هل كان منعه الكلام لآفة نزلت به أم كان ذلك لغير آفة فقال جبير بن نفير{[3152]} ، ربا لسانه في فيه حتى ملأه ثم أطلقه الله بعد ثلاث ، وقال الربيع وغيره : عوقب لأن الملائكة شافهته بالبشارة فسأل بعد ذلك علامة فأخذ الله عليه لسانه ، فجعل لا يقدر على الكلام ، وقال قوم من المفسرين : لم تكن آفة ، ولكنه منع محاورة الناس فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، ثم استثنى الرمز ، وهو استثناء منقطع{[3153]} ، وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها ، إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً ، والكلام المراد بالآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، أنه منقطع ، وقرأ جمهور الناس { رَمْزاً } بفتح الراء وسكون الميم ، وقرأ علقمة بن قيس : «رُمزاً » بضمها ، وقرأ الأعمش «رَمْزاً » بفتحها ، والرمز في اللغة حركة تعلم بما في نفس الرامز بأي شيء كانت الحركة من عين أو حاجب أو شفة أو يد أو عود أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره رموز ، لأنها علامات بغير اللفظ الموضوع للمعنى المقصود الإعلام به ، وقد يقال للتصويت الدال على معنى رمز ، ومنه قول جؤية بن عائد{[3154]} :

[ الوافر ]

وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزاً . . . وَغَمْغَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الْهَدِيرِ{[3155]}

وأما المفسرون فخصص كل واحد منهم نوعاً من الرمز في تفسيره هذه الآية ، فقال مجاهد : { إلا رمزاً } معناه إلا تحريكاً بالشفتين ، وقال الضحاك : معناه إلا إشارة باليد والرأس ، وبه قال السدي وعبد الله ابن كثير ، وقال الحسن : أمسك لسانه فجعل يشير بيده إلى قومه ، وقال قتادة : { إلا رمزاً } ، معناه إلا إيماء ، وقرأ جمهور الناس : { ألا تكلم الناس } بنصب الفعل بأن ، وقرأ ابن أبي عبلة ، «ألا تكلمُ » برفع الميم ، وهذا على أن تكون «أن » مخففة من الثقيلة ويكون فيها ضمير الأمر والشأن التقدير آيتك أنه لا تكلم الناس ، والقول بأن هذه الآية نسخها قول النبي عليه السلام : } لا صمت يوماً إلى الليل{[3156]} { قول ظاهر الفساد من جهات ، وأمره تعالى بالذكر لربه كثيراً لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علة في لسانه ، وقال محمد بن كعب القرظي : لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكرياء عليه السلام حيث قال : «آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً » ، لكنه قال له : { واذكر ربك كثيراً } ، وقوله تعالى : { وسبح } معناه قل سبحان الله ، وقال قوم معناه : صلّ والقول الأول أصوب لأنه يناسب الذكر ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس ، و«العشي » في اللغة من زوال الشمس إلى مغيبها ومنه قول القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي{[3157]} ، و«العشي » من حين يفيء الفيء ، ومنه قول حميد بن ثور{[3158]} :

فلا الظل من برد الضحى تستطيعه . . . ولا الفيء من برد العشيِّ تذوق

و«العشي » اسم مفرد عند بعضهم ، وجمع عشية عند بعضهم كسفينة وسفين ، و{ الإبكار } مصدر أبكر الرجل «إذا بادر أمره من لدن طلوع الشمس ، وتتمادى البكرة شيئاً بعد طلوع الشمس يقال أبكر الرجل وبكر فمن الأول قول ابن أبي ربيعة{[3159]} : [ الطويل ]

أَمِنْ آلِ نُعْمى أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ . . . ومن الثاني قول جرير : [ الطويل ]

أَلاَ بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا . . . وشقَّ العَصَا بَعْدَ اجتماعٍ أمِيرُها{[3160]}

وقال مجاهد في تفسير { الإبكار } : أول الفجر ، والعشي ميل الشمس حتى تغيب .


[3152]:- هو جبير بن نفير، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحدث عن أبي بكر، وعمر، وأبي ذر وجماعة، وعنه حدّث ابنه عبد الرحمان، ومكحول، وغيرهما، من أجلة العلماء، حديثه في الكتب كلها سوى صحيح البخاري، من كبار التابعين، ولأبيه صحبة، توفي سنة: 80هـ ("تذكرة الحفاظ" 1/52 و"الإصابة" 1/258).
[3153]:- إنما كان استثناء منقطعا لأن الرمز لا يدخل تحت التكليم، ومن أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما نفس المشير جعله استثناء متصلا، ولذلك أنشد النحويون: أرادت كلاما فاتقت من رقيبها فلما يك إلا ومؤها بالحواجب وأنشدوا أيضا: إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر.
[3154]:- جؤية بن عائد، وقيل: ابن عاتك النضري، ويقال الأسدي الكوفي النحوي، قدم على معاوية فسأله: ما القرابة؟ قال: المودة، قال: فما السرور؟ قال: المؤاتاة، قال: فما الراحة؟ قال: الجنة، قال: صدقت (بغية الوعاة: 214à.
[3155]:- الرمز: تصويت خفي باللسان؛ وقيل إشارة بالعينين أو الحاجبين، والغمغمة: الكلام الذي لا يبين، والهدير: تردد صوت البعير في حنجرته.
[3156]:- أخرجه أبو داود في السنن عن علي رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل). "الجامع الصغير" 2/650. "والأذكار" للنووي. والصمات بالضم: السكوت، وفي الحديث: النهي عما كان من أفعال الجاهلية وهو الصمت عن الكلام في الاعتكاف وغيره.
[3157]:- أخرجه الإمام مالك في الموطأ في باب "وقوت الصلاة".
[3158]:- هو حميد بن ثور الهلالي أبو المثنى، شاعر مخضرم وفد على النبي وأنشده قصيدته التي أولها: أصبح قلبي من سليمى مقصدا. روى عن عمر، وكان شاعرا مغلبا، وعاش إلى خلافة عثمان، (انظر الشعر والشعراء: 306، والأغاني 4/97، ومعجم الأدباء 4/153، والسمط: 376، وابن عساكر 4/456، وكتب الصحابة).
[3159]:- يعني عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر المشهور، (ترجمته في الأغاني 1/28 والخزانة 1/238، والشعر والشعراء: 457)؛ وتتمة بيته: ......................... غداة غد أم رائح فمهجّر؟
[3160]:- البيت مطلع قصيدة لجيري يهجو بها غسان بن ذهب مناقضا (ديوانه: 890) وشق العصا: كناية عن الفرقة. ومنه قول الشاعر: بكرت تلومك بعدوهن في الندى بسل عليك ملامتي وعتابي