الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

قوله تعالى : { اجْعَلْ لِّي آيَةً } يجوزْ أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنينِ أوَّلهما " آية " والثاني : الجارُّ قبلَه . والتقديمُ هنا واجبٌ ، لأنه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرة وهي " آية " لو انحلَّتْ إلى مبتدأ وخبر إلا تقدُّمُ هذا الجارِّ ، وحكمُهما بعد دخول الناسخِ حكمُهما قبلَه ، والتقديرُ : صَيِّرْ آيةً من الآياتِ لي . ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى الخَلَقْ والاتِّخاذ أي : اخلُقْ لي آيةً فتعدَّى لواحدٍ ، وفي " لي " على هذا وجهان :

أحدُهما : أن يتعلَّقَ بالجَعْلِ ،

والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " آية " لأنه لو تأخر لجازَ أن يقعَ صفةً لها ، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ .

وحَرَّك الياءَ بالفتح نافع وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .

قوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لقوله : " آيتُك " أي : آيتُك عدمُ كلامِك للناس . والجمهورُ على نصبِ " تُكَلِّم " بأَنْ المصدريةِ . وقرأ ابن أبي عبلة برفعِه ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن تكونَ " أَنْ " مخففةً من الثقيلةِ ، واسمُها حينئذٍ ضميرُ شأنٍ محذوفٍ ، والجملةُ المنفيَّةُ بعدَها في محلِّ رفع خبراً ل " أَنْ " ، ومثلُه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ، ووقعَ الفاصلُ بين أَنْ والفعلِ الواقعِ خبَرَها بحرف نفي ، ولكنْ يُضْعِفُ كونَها مخففةً عدمُ وقوعِها بعد فعلِ يقين .

الثاني : أَنْ تكونَ الناصبَةُ حُمِلَتْ على " ما " أختِها ، ومثلُه : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، وأَنْ وما في حَيِّزها أيضاً في محلِّ رفعٍ خبراً ل " آيتُك " .

قوله تعالى : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيحُ أنَّ هذا النحوَ وهو ما كان من الأزمنة يستغرقُ جميعُه الحدثَ الواقعَ فيه منصوبٌ على الظرفِ خلافاً للكوفيين فإنَّهم يَنْصِبونه نصبَ المفعولِ به ، وقيل : " وثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ تقديرُه : ثلاثةَ أيام وليالِيها ، فحُذِفَ كقولِه تعالى : { تَقِيكُمُ الْحَرَّ }

[ النحل : 81 ] ونظائِره ، يَدُلُّ على ذلك قولُه في سورة مريم : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً }[ مريم : 10 ] ، وقد يُقَال : إنَّه يُؤْخَذُ المجموعُ من المجموعِ فلا حاجةَ إلى ادَّعاءِ حَذفٍ ، فإنَّا على هذا التقديرِ الذي ذكرتموه نَحْتاجَ إلى تقديرِ معطوفٍ في الآية الأخرى تقديرُه : ثلاثَ ليالٍ وأيامَها .

قوله : { إِلاَّ رَمْزاً } فيه وجهان :

أحدُهما : أنه استثناءٌ منقطع لأنَّ الرمزَ ليس من جنسِ الكلام ، إذ الرمز : الإِشارةُ بعينٍ أو حاجبٍ ، أو نحوهما ، ولم يَذْكُر أبو البقاء غيرَه ، واختارَه ابنُ عطية بادِئاً به فإنه قال : " والكلامُ المرادُ في الآية إنما هو النطقُ باللسان لا الإِعلامُ بما في النفسِ ، فحقيقةُ هذا الاستثناءِ أنه استثناءٌ منقطعٌ " ثم قال : " وذهب الفقهاءُ إلى أنَّ الإِشارةَ ونحوَها في حكمِ الكلامِ في الأَيْمان ونحوِها ، فعلى هذا يَجِيءُ الاستثناءُ متصلاً " .

والوجه الثاني : أنه متصلٌ ؛ لأنَّ الكلامَ لغةً يُطلقُ بإزاء معانٍ ، الرمزُ والإِشارةُ من جملتها ، وأنشدوا على ذلك :

إذا كَلَّمَتْني بالعيونِ الفواترِ *** رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ

وقال آخر :

أرادَتْ كلاماً فاتَّقَتْ من رقيبها *** فلم يَكُ إلا وَمْؤُها بالحواجبِ

وقد استعمل الناسُ ذلك فقال حبيب :

كَلَّمْتُه بجفونٍ غيرِ ناطقة *** فكانَ مِنْ رَدِّهِ ما قالَ حاجِبُهْ

وبهذا الوجه بدأ الزمخشري مختاراً له قال : " لمَّا أُدِّي مُؤَدَّى الكلام وفُهِم منه ما يُفْهَمُ منه سُمِّي كلاماً ، ويجوز أَنْ يكونَ استثناء منقطعاً " .

والرَّمْزُ : الإِشارةُ والإِيماءُ بعينٍ أو حاجبٍ أو يَدٍ ، ومنه قيلَ للفاجِرَةِ : الرامِزَة والرَّمَّازة ، وفي الحديث : " نَهَى عن كَسْبٍ الرَّمَّازة " يقال فيه : رَمَزَت تَرْمُزُ وتَرْمِزِ بضم العين وكسرها في المضارع ، وأصل الرَّمْز : التحرك يقال : رَمَزَ وارتَمَزَ أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز لتحرُّكه واضطرابه . وقال الراغب : " الرَّمْز : إشارةُ بالشفة ، والصوتُ الخفي والغمزُ بالحاجبِ ، وما ارمازَّ أي : لم يتكلَّم رمزاً ، وكتيبة رمَّازة : أي لم يُسْمَعْ منها إلا رمْزٌ لكثرتِها " قلت : ويؤيِّدُ كونَه الصوتَ الخفي كما قال الراغب ما جاء في التفسيرِ أنه كان ممنوعاً من رفعِ الصوتِ .

والعامَّةُ قرؤوا : رَمْزاً بفتحِ الراءِ وسكونِ الميم . وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة بن قيس : " رُمُزاً " بضمِّهما وفيه وجهان :

أحدُهما : أنه مصدر على فُعْل بتسكينِ العينِ في الأصلِ ، ثم ضُمَّتِ العينُ إتباعاً كقولهم : اليُسْر والعُسْر في : اليُسُر والعُسُر ، وقد تقدَّم في هذا كلامٌ لأهلِ التصريف .

والثاني : أنه جمعُ رَمُوز كرُسُل في جمع رسول ، ولم يَذْكر الزمخشري غيره . وقال أبو البقاء : " وقُرِىء بضمِّها أي الراء وهو جمع رُمُزَة بضمتين ، وأُقِرَّ ذلك في الجمعِ ، ويجوز أَن يكونَ سَكَّن الميمَ في الأصل ، وإنما أَتْبَعَ الضَّمَّ الضَّمَّ ، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً غيرَ جمعٍ وضُمَّ إتباعاً كاليُسْر واليُسُر " قلت : قوله : " جمعُ رُمُزة " إلى قوله " في الأصل " كلام مُثْبَجٌ لا يُفْهَمُ منه معنًى صحيحٌ . وقرأ الأعمش : " رَمَزاً " بفتحِهِما . وخرَّجها الزمخشري على أنه جمعُ رامِزِ كخادِمِ وخَدَم .

وانتصابُهُ على هذا على الحالِ من الفاعِلِ وهو ضميرُ زكريا ، والمفعولِ معاً وهو الناس كأنه : إلا مترامزين كقوله :

متى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ *** رَوانِفُ إليَتَيْكَ وتُسْتَطارا

/ وكقوله :

فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ *** أيِّي وأيُّك فارسُ الأَحْزَابِ

قوله تعالى : { كَثِيراً } نعتٌ لمصدر محذوفٍ أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ وقد عُرِفَ . أو نَعْتٌ لزمانٍ محذوفٍ تقديرُهُ : ذِكْراً كثيراً أو زماناً كثيراً .

والباءُ في قوله : { بِالْعَشِيِّ } بمعنى " في " أي : في العشي والإِبكار . والعَشِيُّ يُقال من وقت زوال الشمس إلى مَغِيبِها ، كذا قال الزمخشري . وقال الراغب : " العَشِيُّ : من زوال الشمس إلى الصباح " والأولُ هو المعروفُ . وقال الواحدي : " العَشِيُّ : جمع عَشِيَّة وهي آخر النهار " .

والعامة قرؤوا : " والإِبكار " بكسر الهمزة ، وهو مصدرُ بَكَّر يُبَكِّر إبكاراً أي : خرج بُكْرة ، ومثله بَكَر بالتخفيف وابْتَكَر . قال عمر بن أبي ربيعة :

أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غادٍ فَمُبْكِرُ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فهذا من أَبْكر . وقال أيضاً :

أيها الرائحُ المُجِدُّ ابتكاراً *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقال الآخر :

بَكَرْنَ بُكوراً واسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ *** فهنَّ ووادي الرَّسِّ كاليدِ في الفم

وقُرىء شاذاً : " والأَبْكار " بفتح الهمزةِ ، وهو جمعُ " بَكَر " بفتح الفاء والعين . ومتى أُريد به هذا الوقتُ من يومٍ بعينِهِ امتنع من الصرف والتصرُّف فلا يُستعمل غيرَ ظرف . تقول : " أتيتُك يومَ الجمعة بَكَر " ، وسببُ منع صرفه التعريفُ والعدلُ من " أل " ، فلو أُريد به وقتٌ مبهمٌ انصرفَ نحو : " أتيتكَ بَكَراً من الأبكار " ، ونظيره : سَحَرَ وأَسْحار في جميعِ ما تقدَّم ، وهذه القراءةُ تناسِبُ قولَه " العشيّ " عند مَنْ يَجْعَلُهَا جمعَ

" عَشِيََّة " ليتقابَلَ الجمعان .

ووقتُ الإِبكارِ من طلوعِ الفجرِ إلى وقتِ الضُّحى وقال الراغب : " أصلُ الكلمةِ هي البُكْرَةُ أولَ النهارِ ، فاشْتُقَّ من لفظِهِ لفظُ الفعل فقيل : بَكَر فلانٌ بُكوراً إذا خَرَجَ بُكْرة ، والبَكُور : المبالغُ في البُكور ، وبَكَّر في حاجته وابتَكَر وباكَرَ ، وتُصُوِّر فيها معنى التعجيل لتقدُّمِها على سائِر أوقاتِ النهار ، فقيل لكل متعجِّلٍ : بَكِر " قلت : ظاهرُ هذه العبارة وكذا عبارةُ غيره أنَّ البَكَرَ مختصٌّ بطلوعِ الشمسِ إلى الضحى ، فإنْ أريد به من أول طلوعِ الفجر إلى الضحى ، فإنه على خلاف الأصلِ . وقد صَرَّح الواحدي بذلك فقال : هذا معنى الإِبكار ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجرِ إلى الضحى إبكاراً كما يُسَمَّى إصْباحاً .