قوله : { اجْعَلْ لِّي آيَةً } يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما " آية " ، الثاني : الجار قبله ، والتقديم - هنا - واجب ؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد ، وفي " لِي " - على هذا - وجهان :
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " آيةً " ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها . ويجوز أن يكون للبيان .
وحرك الياء - بالفتح{[58]} - نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون .
المراد بالآية : العلامة ، أي : علامة أعلم بها وقتَ حَمْل امرأتي ، فأزيد في العبادة شكراً لذلك ، وذكروا في الآية وجوهاً :
أحدها : أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً ؛ وهو قول أكثر المفسّرين ، وفيه فائدتان :
إحداهما : أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد .
والثانية : أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقْدَره على الذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة .
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ :
أحدها : أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات .
وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة .
ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة ، فقد حصل الولد ، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر .
الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلاً بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضاً عن الخلق والدنيا ؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب .
الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام ؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام .
وقوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } " أن " وما في حَيِّزها في محل رفع ؛ خبراً لقوله : { آيَتُكَ } أي آيتك عدم كلامك الناس . والجمهور على نصب " تُكَلِّمَ " بأن المصدرية .
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه{[59]} ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون " أن " مخففة من الثقيلة ، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع ، خبراً لِ " أن " ومثله :
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] وقوله : { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ووقع الفاصل بين " أن " والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين .
والثاني : أن تكون " أن " الناصبة حُمِلَتْ على " ما " أختها ، ومثله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] و " أن " وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع ، خبراً ل " آيتك " .
قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف ، خلافاً للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به .
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ونظائره ؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف ؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرى ثلاث ليال وأيامها .
قوله : { إلاَّ رَمْزًا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع ؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعَيْن ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره .
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له ، فإنه قال : " والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها ؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً " .
والوجه الثاني : أنه متصل ؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها .
إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ *** رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ{[60]}
أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا *** فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ{[61]}
وهو مستعمل ، قال حبيب : [ البسيط ]
كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ *** فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ{[62]}
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له ، قال : " لما أدى مؤدَّى الكلام ، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً " .
والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة ، والرمَّازة ، وفي الحديث : " نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ{[63]} " ، يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع .
وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه .
وقال الراغب{[64]} : " الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب . وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً ، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً ؛ لكثرتها " .
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت .
قال الفراء : " قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهَمْس " .
وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً .
وقرأ العامة : " رمزاً " - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن{[65]} قيس " رُمُزاً " بضمها - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على " فُعْل " - بتسكين العين - في الأصل ، ثم ضُمَّتِ العين ؛ إتباعاً ، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه .
والثاني : أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
وقال أبو البقاء : " وقرئ بضمها - أي : الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع . ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ .
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع ، وضُمَّ ، إتباعاً ، كاليُسُر واليُسْر " .
قال شهاب الدين : قوله : " جمع رُمُزة " إلى قوله : في الأصل ؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح .
وقرأ الأعمش : " رَمَزاً " بفتحهما .
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال : إلا مترامزين ، كقوله : [ الوافر ]
مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ *** رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا{[66]}
فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ *** أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ ؟{[67]}
قوله : " كَثِيراً " نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً ، أو زماناً كثيراً ، والباء في قوله : " بِالْعَشِيِّ " بمعنى " فِي " أي : في العشي والإبكار .
والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها ، كذا قال الزمخشريُّ .
وقال الراغب : " العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ " . والأول هو المعروف .
فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ *** وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ{[68]} تَذُوقُ
وقال الواحديُّ : " العَشِيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهارِ " .
والعامة قرءوا : " والإبْكَارِ " بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً ، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر .
قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر- *** -{[69]} . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً- *** - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[70]}
بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ- *** -فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ{[71]}
وقرئ شاذاً " والأبْكَار " - بفتح الهمزة{[72]} - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف ، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر . وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن " اَل " . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم .
وهذه القراءة تناسب قوله : { بِالْعَشِيِّ } عند من يجعلها جمع عَشِيَّة ؛ ليتقابل الجَمْعَان .
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
وقال الراغب{[73]} : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل ، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً . والبَكور : المبالغ في البكور ، وبَكَّر في حاجته ، وابتكر وبَاكَر . [ وتصور فيها{[74]} ] معنى التعجيل ؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر .
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ .
وقد صرح الواحديُّ بذلك ، فقال : " هذا معنى الإبكارِ ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً " .
قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب ، وقوله : { وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } محمول على الذكر باللسان .
وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة ؛ لأنها تسمى تسبيحاً ، قال تعالى :
{ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ .