الأولى : قوله تعالى : " قال رب اجعل لي آية " " جعل " هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين . و " لي " في موضع المفعول الثاني . ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ، قاله أكثر المفسرين . قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما . قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه .
الثانية : قوله تعالى : " إلا رمزا " الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، وأصله الحركة . وقيل : طلب تلك الآية زيادة طمأنينة . المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ، فقيل له : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له . " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " {[3069]} [ مريم : 9 ] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد . واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني . و " رمزا " نصب على الاستثناء المنقطع . قاله الأخفش . وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمِز . وقرئ " إلا رمزا " بفتح الميم و " رمزا " بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة .
الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : ( أين الله ) ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) . فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء . وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه . وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق . وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان . والقياس في هذا كله أنه باطل ؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في{[3070]} الديانة . ولعل البخاري حاول بترجمته " باب الإشارة في الطلاق والأمور " الرد عليه . وقال عطاء : أراد بقوله " ألا تكلم الناس " صوم ثلاثة أيام . وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا . وهذا فيه بعد . والله أعلم .
الرابعة : قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام : ( لا صمت يوما إلى الليل ){[3071]} . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة{[3072]} دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة ، كذلك قال المفسرون . وذهب كثير من العلماء إلى أنه ( لا صمت يوما إلى الليل ) إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهَذَر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن .
قوله تعالى : " واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ؛ على القول الأول . وقد مضى في البقرة{[3073]} معنى الذكر . وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل : " ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : " إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا " {[3074]} [ الأنفال : 45 ] . وذكره الطبري . " وسبح " أي صل ، سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء . و " العشي " جمع عشية . وقيل : هو واحد . وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، عن مجاهد . وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي . " والإبكار " من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.