الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " قال رب اجعل لي آية " " جعل " هنا بمعنى صير لتعديه إلى مفعولين . و " لي " في موضع المفعول الثاني . ولما بشر بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية - أي علامة - يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى ، فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ، قاله أكثر المفسرين . قالوا : وكذلك إن لم يكن من مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب ما . قال ابن زيد : إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله تعالى ، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه .

الثانية : قوله تعالى : " إلا رمزا " الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين ، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين واليدين ، وأصله الحركة . وقيل : طلب تلك الآية زيادة طمأنينة . المعنى : تمم النعمة بأن تجعل لي آية ، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة ، فقيل له : " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ، دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له . " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " {[3069]} [ مريم : 9 ] أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد . واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ، والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني . و " رمزا " نصب على الاستثناء المنقطع . قاله الأخفش . وقال الكسائي : رمز يرمز ويرمِز . وقرئ " إلا رمزا " بفتح الميم و " رمزا " بضمها وضم الراء ، الواحدة رمزة .

الثالثة : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : ( أين الله ) ؟ فأشارت برأسها إلى السماء فقال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) . فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء . وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق إنه يلزمه . وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق . وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهي باطل ، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان . والقياس في هذا كله أنه باطل ؛ لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . قال أبو الحسن بن بطال : وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في{[3070]} الديانة . ولعل البخاري حاول بترجمته " باب الإشارة في الطلاق والأمور " الرد عليه . وقال عطاء : أراد بقوله " ألا تكلم الناس " صوم ثلاثة أيام . وكانوا إذا صاموا لا يتكلمون إلا رمزا . وهذا فيه بعد . والله أعلم .

الرابعة : قال بعض من يجيز نسخ القرآن بالسنة : إن زكريا عليه السلام منع الكلام وهو قادر عليه ، وإنه منسوخ بقوله عليه السلام : ( لا صمت يوما إلى الليل ){[3071]} . وأكثر العلماء على أنه ليس بمنسوخ ، وأن زكريا إنما منع الكلام بآفة{[3072]} دخلت عليه منعته إياه ، وتلك الآفة عدم القدرة على الكلام مع الصحة ، كذلك قال المفسرون . وذهب كثير من العلماء إلى أنه ( لا صمت يوما إلى الليل ) إنما معناه عن ذكر الله ، وأما عن الهَذَر وما لا فائدة فيه ، فالصمت عن ذلك حسن .

قوله تعالى : " واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " أمره بألا يترك الذكر في نفسه مع اعتقال لسانه ؛ على القول الأول . وقد مضى في البقرة{[3073]} معنى الذكر . وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا بقول الله عز وجل : " ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا " ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل : " إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا " {[3074]} [ الأنفال : 45 ] . وذكره الطبري . " وسبح " أي صل ، سميت الصلاة سُبْحَة لما فيها من تنزيه الله تعالى عن السوء . و " العشي " جمع عشية . وقيل : هو واحد . وذلك من حين تزول الشمس إلى أن تغيب ، عن مجاهد . وفي الموطأ عن القاسم بن محمد قال : ما أدركت الناس إلا وهم يصلون الظهر بعشي . " والإبكار " من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .


[3069]:- راجع جـ11 ص 84.
[3070]:- في د: من الديانة.
[3071]:- وفي البحر وابن عطية "لا صمت يوم" ورواية أبي داود "ولا صمات يوم إلى الليل" راجع الحديث في اللسان مادة: صمت.
[3072]:- في د: بآية، وتلك الآية.
[3073]:- راجع جـ1 ص 331.
[3074]:- راجع جـ8 ص 32.