الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمۡزٗاۗ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ كَثِيرٗا وَسَبِّحۡ بِٱلۡعَشِيِّ وَٱلۡإِبۡكَٰرِ} (41)

وقوله : { قَالَ رَبِّ اجعل لِّي آيَةً }[ آل عمران :41 ] .

أي : علامة ، قالَتْ فرقة من المفسِّرين : لم يكنْ هذا من زكريَّا على جهة الشكِّ ، وإِنما سأل علامةً على وَقْت الحَمْلِ .

وقوله تعالى : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس . . . } [ آل عمران :41 ] .

قال الطبريُّ ، وغيره : لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة ، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس ، وكان يَقْدِرُ على ذكر اللَّه ، ثم استثنى الرَّمْز وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ ، والكلام المرادُ في الآية : إِنما هو النطْقُ باللِّسَان ، لا الإِعلام بما في النَّفْس ، والرَّمْزُ في اللغة : حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ ، كانت الحركةُ من عَيْنٍ ، أو حاجبٍ ، أو شَفَةٍ ، أو يدٍ ، أو عُودٍ ، أو غيرِ ذلك ، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره : رُمُوز .

وأَمَرَهُ تعالى بالذِّكْر لربه كثيراً ، لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه ، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ .

قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ : لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر ، لرخَّص لزكريَّاء عليه السلام ، حيث قال : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } ، لكنه قال له : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً }[ آل عمران :41 ] ، قال الإِمام الفَخْر : وفي الآية تأويلان :

أحدهما : أنَّ اللَّه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ ، ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته ، شُكْراً للَّه على هذه النِّعْمة ، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه :

أحدها : أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات ،

وثانيها : أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صِحَّة البِيْنَةِ من المعجزاتِ .

وثالثها : أن إِخباره بأنه متى حصلَتْ تلْكَ الحالةُ ، فقَدْ حصل الولد ، ثم إِنَّ الأمر خرج على وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات .

والتأويل الثَّاني : أن المراد منه الذكْر بالقَلْب ، وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالى عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً ، فإِذا امتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالى ، سكَتُوا باللِّسَان ، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب ، ولذلك قالوا : مَنْ عَرَفَ اللَّه ، كَلَّ لِسَانُهُ ، فكان زكريَّاء عليه السلام أمر بالسُّكُوت باللِّسَان ، واستحضار معانِي الذكْرِ والمعرفةِ ، واستدامتها بالقَلْب اه .

وقوله تعالى : { وَسَبِّحْ } معناه : قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، وقال قومٌ : معناه صَلِّ ، والأول أصوبُ ، لأنه يناسب الذكْرَ ، ويستغربُ مع امتناع الكلام مع النَّاسِ ، و( العَشِيُّ ) في اللغة : من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها ، و( الإِبْكَارُ ) مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس ، يقال : أَبْكَرَ الرجُلُ ، وَبَكَّرَ .