المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

وقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة ، تقدم في هذه إلى الرعية ، فأمر بطاعته عز وجل ، وهي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله ، وطاعة الأمراء على قول الجمهور : أبي هريرة وابن عباس وابن زيد وغيرهم ، فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر ، وعن عبد الله ومجاهد وجماعة : أولو الأمر : أهل القرآن والعلم{[4118]} ، فالأمر على هذا التأويل أشار إلى القرآن والشريعة ، أي : أولي هذا الأمر وهذا الشأن وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال : الإشارة هنا ب { أولي الأمر } إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وحكي عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر خاصة ، وفي هذا التخصيص بعد ، وحكى بعض من قال : إنهم الأمراء أنها نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان السبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فيها عمار بن ياسر ، وأميرها خالد بن الوليد ، فقصدوا قوماً من العرب ، فأتاهم نذير فهربوا تحت الليل .

وجاء منهم رجل إلى عسكر خالد ، فدخل إلى عمار فقال : يا أبا اليقظان ، إن قومي قد فروا ، وإني قد أسلمت ، فإن كان ينفعني إسلامي بقيت ، وإلا فررت ، فقال له عمار : هو ينفعك ، فأقم ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد سوى الرجل المذكور فأخذه وأخذ ماله ، فجاء عمار فقال : خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني ، فقال خالد : وأنت تجير ؟ فاستبّا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير ، واستبّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا خالد لا تسب عماراً ، فإنه من سب عماراً سبه الله ، ومن أبغض عماراً أبغضه الله ، ومن لعن عماراً لعنه الله ، » فغضب عمار ، فقام فذهب ، فتبعه خالد حتى اعتذر إليه فتراضيا ، فأنزل الله عز وجل قوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }{[4119]} وطاعة الرسول هي اتباع سنته ، قاله عطاء وغيره ، وقال ابن زيد : معنى الآية { وأطعيوا الرسول } .

قال القاضي أبو محمد : يريد «وسنته » بعد موته ، المعنى : { فإن تنازعتم } فيما بينكم أو أنتم وأمراؤكم ، ومعنى التنازع أن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها{[4120]} ، والرد إلى الله : هو النظر في كتابه العزيز ، والرد إلى الرسول : هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته عليه السلام ، هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة والسدي ، وهو الصحيح ، وقال قوم : معناه قولوا : الله ورسوله أعلم ، فهذا هو الرد{[4121]} ، وفي قوله : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } بعض وعيد ، لأن فيه جزاء المسيء العاتي ، وخاطبهم ب { إن كنتم تؤمنون } وهم قد كانوا آمنوا ، على جهة التقرير ، ليتأكد الإلزام ، و { تأويلاً } معناه : مآلاً على قول جماعة ، وقال مجاهد : أحسن جزاء ، قال قتادة والسدي وابن زيد : المعنى أحسن عاقبة ، وقالت فرقة : المعنى أن الله ورسوله أحسن نظراً وتأولاً منكم إذا انفردتم بتأولكم .


[4118]:- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: [أطيعوا الله وأطيعوا الرسول] قال: طاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة، وأولي الأمر منكم، قال أولي الفقه والعلم. (الدر المنثور).
[4119]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي. (ابن كثير- والدر المنثور)، وكذلك رواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (ابن كثير). وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وغيرهم عن ابن عباس في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وألي الأمر منكم} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، قال أبو عمر: وكان في عبد الله بن حذافة دعابة معروفة، ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمّره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا، فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني)، فقالوا: ما آمنا واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار، فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم}). قال القرطبي: وهو حديث صحيح الإسناد مشهور.
[4120]:- النزع: الجذب، والمنازعة: مجاذبة الحجج، ومنه الحديث: (مالي ينازعني القرآن) ذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه قراءته فشغله، فنهاه عن الجهر بالقراءة في الصلاة خلفه، وقال الأعشى: نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل
[4121]:- وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل" – وفي قوله تعالى: [الرسول] دليل على أن سننه صلى الله عليه وسلم يعمل بها، ويمتثل ما فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم)، أخرجه مسلم.