فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ( 59 ) }

{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } لما أمر الله سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق أمر الناس بطاعتهم هنا ، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه ، وأولوا الأمر : هم الأئمة والسلاطين والقضاة وأمراء الحق ولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية .

والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال جابر ابن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر هم أهل القرآن والعلم ، وبه قال مالك والضحاك ، وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن كيسان : هم أهل العقل والرأي ، وعن ابن عباس قال : هم الفقهاء والعلماء الذين يعلمون الناس معالم دينهم وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد ، والراجح القول الأول لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله وللمسلمين مصلحة فإذا زال عن الكتاب والسنة فلا طاعة له ، وإنما تجب طاعته فيما وافق الحق .

عن ابن عباس قال نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية وقصته معروفة{[492]} .

قال عطاء طاعة الله والرسول إتباع الكتاب والسنة ، وأولي الأمر ، قال أولي الفقه والعلم ، وعن أبي هريرة قال : أولو الأمر هم الأمراء وفي لفظ هم أمراء السرايا وقال جابر بن عبد الله : هم أهل العلم وعن مجاهد وأبي العالية نحوه .

وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما مقيدة ، بأن يكون ذلك في المعروف وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله .

ومن جملة ما استدل به المقلدة هذه الآية قالوا : وأولوا الأمر هم العلماء ، والجواب أن للمفسرين في تفسيرها قولين أحدهما أنهم الأمراء ، والثاني أنهم العلماء كما تقدم ولا يمتنع إرادة الطائفتين من الآية الكريمة ، ولكن أين هذا من الدلالة على مراد المقلدين فإنه لا طاعة لأحدهما إلا إذا أمروا بطاعة الله على وفق سنة رسوله وشريعته .

وأيضا العلماء إنما ارشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم ونهوهم عن ذلك كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم فطاعتهم ترك تقليدهم{[493]} ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد الناس إلى التقليد ويرغبهم فيه لكان يرشد إلى معصية الله ، ولا طاعة له بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وإنما قلنا إنه يرشد إلى معصية الله لأن من أرشد هؤلاء العامة الذين لا يعقلون الحجج ولا يعرفون الصواب من الخطأ إلى التمسك بالتقليد ، كان هذا الإرشاد منه مستلزما لإرشادهم إلى ترك العمل بالكتاب والسنة إلا بواسطة آراء العلماء الذين يقلدونهم ، فما عملوا به عملوا به وما لم يعملوا به ، لم يعملوا به ولا يلتفتون إلى كتاب وسنة بل من شرط التقليد الذي أصيبوا به أن يقبل من إمامه رأيه ولا يعول على روايته ولا يسأله عن كتاب ولا سنة ، فإن سأله عنهما خرج عن التقليد لأنه صار مطالبا بالحجة .

ومن جملة ما يجب فيه طاعة أولى الأمر تدبير الحروب التي تدهم الناس والانتفاع بآرائهم فيها وفي غيرها من تدبير أمر المعاش وجلب المصالح ودفع المفاسد الدنيوية ، ولا يبعد أن تكون الطاعة في هذه الأمور التي ليست من الشريعة هي المراد بالأمر بطاعتهم لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

ولا يبعد أيضا أن تكون طاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل الواجبات المخيرة وواجبات الكفاية ، فإذا أمروا بواجب من الواجبات المخيرة أو ألزموا بعض الأشخاص الدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك ، فهذا أمر شرعي وجب فيه الطاعة .

وبالجملة فهذه الطاعة لأولي الأمر المذكورة في الآية هي الطاعة التي ثبتت في الأحاديث المتواترة في طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله أو يروي المأمور كفرا بواحا ، فهذه الأحاديث مفسرة في الكتاب العزيز ، وليس ذلك من التقليد في شيء بل في طاعة الأمراء الذين غالبهم الجهل والبعد عن العلم في تدبير المحاربات وسياسة الأجناد وجلب مصالح العباد ، وأما الأمور الشرعية المحضة فقد أغنى عنها كتاب الله العزيز وسنة رسوله المطهرة صلى الله عليه وسلم .

هذا الذي سقناه هو عمدة أدلة المجوزين للتقليد وقد أبطلناه كما عرفت ، ولهم شبه غير ما حررناه .

{ فإن تنازعتم } المنازعة المجاذبة والنزع الجذب كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها والمراد بالاختلاف المجادلة ، والظاهر أنه خطاب مستقل مستأنف موجه للمجتهدين ، ولا يصح أن يكون لأولي الأمر إلا على طريق الالتفات ، وليس المراد فإن تنازعتم أيها الرعايا مع أولي الأمر المجتهدين لأن المقلد ليس له أن ينازع المجتهد في حكمه ، قال أبو السعود على ما في الجمل ، والأول ما قدمناه .

وظهر قوله { في شيء } يتناول أمور الدين والدنيا ولكنه لما قال { فردوه إلى الله والرسول } تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا ، والمعنى في شيء غير منصوص نصا صريحا من الأمور المختلف فيها كندب الوتر وضمان العارية ونحوهما ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه العزيز ، والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته فالرد إليه سؤاله .

هذا معنى الرد إليهما ، وقيل معنى الرد أن يقول لما لا يعلم " الله ورسوله أعلم " وهو قول ساقط وتفسير بارد ، وليس الرد في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } .

والرد إلى كتاب الله وسنة رسوله واجب ، فإن وجد ذلك في كتاب الله أخذ به ، فإن لم يوجد فيه ففي سنة رسوله ، فإن لم يوجد فيها فسبيله الاجتهاد ، ولا يلتفت عند وجود الحكم فيهما أو في أحدهما إلى غيرهما من آراء الرجال وغيرهم فإنه مشاقة لله ولرسوله من بعد ما تبين له الهدى .

وفي قوله { إن كنتم تؤمنون } دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين وأنه شأن من يؤمن { بالله واليوم الآخر } وفي الآية دليل على أن من لا يعتقد وجوب متابعة الكتاب والسنة والحكم بالنصوص القرآنية والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر .

{ ذلك } أي الرد المأمور به { خير وأحسن تأويلا } أي مرجعا وأحمد عاقبة من الأول يقال آل يؤول إلى كذا أي صار إليه ، والمعنى أن ذلك الرد خير لكم في حد ذاته من غير اعتبار فضله على شيء يشاركه في أصل الخيرية من التنازع والقول بالرأي وأحسن مآلا مرجعا ترجعون إليه ، ويجوز أن يكون المعنى أن الرد أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع ، وقال قتادة : ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبة ، وقال مجاهد : أحسن جزاء .

وأعلم أن هذه الآية الشريفة مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن الفقهاء زعموا أن أصول الشريعة أربع الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، وهذه الآية مشتملة على تقرير هذه الأصول الأربعة بهذا الترتيب .

أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما بقوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فدلت على وجوب متابعة الكتاب والسنة ، وقوله تعالى { وأولي الأمر منكم } يدل على أن إجماع الأمة حجة لأن الله تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم ، وهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والمراد بهم أهل الحل والعقد ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة .

وقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } يدل على أن القياس حجة .

وهذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما بسبب القياس ، ولا يجوز تخصيصهما بسبب القياس ألبتة سواء كان القياس جليا أو خفيا ، وسواء كان النص مخصوصا قبل ذلك أم لا .

ومما يدل عليه أن قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أمر بطاعة الكتاب والسنة وهذا الأمر مطلق فثبت أن متابعتهما سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يوجد واجب .

ومما يؤكد ذلك وجوه أخرى ( أحدها ) أن كلمة { إن } على قول الأكثرين للاشتراط وعلى هذا كان قوله { فإن تنازعتم } صريحا في أنه لا يجوز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول { الثاني } أنه تعالى أخر ذكر القياس عن ذكر الأصول الثلاثة وهذا مشهر بأن العمل به مؤخر عن الأصول الثلاثة .

( الثالث ) أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الترتيب في قصة معاذ حيث أخر الاجتهاد عن الكتاب ، وعلق جوازه على عدم وجدان الكتاب والسنة بقوله " فإن لم تجد " .

( الرابع ) أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ثم إن إبليس لم يدفع هذا النص بالكلية بل خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس ، ثم أجمع العقلاء على أنه جعل القياس مقدما على النص وصار بذلك السبب ملعونا ، وهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس تقديم للقياس على النص وأنه غير جائز .

( الخامس ) أن القرآن مقطوع في متنه لأنه ثبت بالتواتر ، والقياس ليس كذلك بل هو مظنون من جميع الجهات ، والمقطوع راجع على المظنون .

( السادس ) قوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وإذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم إنا لا نحكم به بل حكمنا بالقياس لزم الدخول تحت هذا العموم .

( السابع ) قوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله } إلى قوله { إن تتبعون إلا الظن } جعل إتباع الظن من صفات الكفار ، ومن الموجبات القوية في مذمتهم ، فهذا يقتضي أن لا يجوز العمل بالقياس ألبتة ترك هذا النص لما بينا أنه يدل على جواز العمل بالقياس ، لكنه إنما دل على ذلك عند فقدان النصوص فوجب عند وجدانها أن يبقى على الأصل .

( التاسع ) أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقياس عقل الإنسان الضعيف وكل من له عقل صحيح علم أن الأول أقوى بالمتابعة وأحرى .

وأيضا هذه الآية دالة على أن ما سوى هذه الأصول الأربعة مردود باطل وليس للمكلف أن يتمسك بشيء سوى هذه الأصول ، فالقول بالاستحسان الذي يقول به أبو حنيفة ، والقول بالاستصلاح الذي يقول به مالك إن كان المراد به أحد هذه الأمور الأربعة فهو تغيير عبارة ولا فائدة فيه ، وإن كان مغايرا لهذه الأربعة كان القول به باطلا قطعا لدلالة هذه الآية على بطلانه .

والأمر في قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } للوجوب وبه زعم كثير من الفقهاء واعترض عليه المتكلمون بما لا يغني عن جوع ، وهذه الآية دالة على أن ظاهر الأمر للوجوب ولا شك أنه أصل معتبر في الشرع .

وفي الآية دلالة على أن شرط الاستدلال بالقياس في المسألة أن لا يكون فيها نص من الكتاب والسنة لأن قوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه } مشعر بهذا الاشتراط ، ومعنى تنازعتم اختلفتم ، قال الزجاج : أي قال كل فريق القول قولي والمنازعة عبارة عن مجاذبة كل واحد من الخصمين لحجة مصححة لقوله أو محاولة جذب قوله ونزعه إياه عما يفسده ، وآخر الآية يقتضي أن من لم يطع الله والرسول لا يكون مؤمنا{[494]} .

والكلام في الآية استنباطا وتفقها وردا وتعقبا يطول ، وقد بسط القول الرازي في تفسيره والذي ذكرناه حاصل ما يتعلق بالتفسير منه .


[492]:أنظر البخاري8/190 ومسلم 3/1465 وأحمد2/622.
[493]:البخاري: 8/190، ومسلم: 3/1465. قال الحافظ في "الفتح": كذا ذكره أي البخاري مختصرا والمعنى: نزلت في قصة عبد الله ابن حذافة، أي المقصود منها في قصته قوله: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله} الآية. قلت/ وقصة حذافة بطولها رواها الإمام أحمد2/622، والبخاري 13/109، ومسلم3/1469 عن علي رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها، قال، فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار، فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف".
[494]:قال الحافظ ابن حجر في "فتح" النكتة في إعادة العامل في "الرسول" دون "أولي الأمر" مع أن المطاع في الحقيقة هو الله تعالى، كون الذي يعرف به ما يقع به التكليف، هما القرآن والسنة، فكأن التقدير: وأطيعوا الله فيما قضى عليكم في القرآن، وأطيعوا الرسول فيما بين لكم من القرآن، وما ينصه عليكم من السنة، والمعنى: أطيعوا الله فيما يأمركم به من الوحي المتعبد بتلاوته، وأطيعوا الرسول فيما يأمركم من الوحي الذي ليس بقرآن. قلت: وقد روى أبو داود4/279 بسند صحيح عن المقدام بن معدي كرب، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله".