غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} (59)

58

ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } الآية . عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . قالت المعتزلة : الطاعة موافقة الإرادة . وقالت الأشاعرة : الطاعة موافقة الأمر . ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مراداً أم لا . فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلاً بالإيمان . وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور . قال في التفسير الكبير : هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة : الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وليس العطف للمغايرة الكلية ، ولكن الكتاب يدل على أمر الله ، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة . والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله . والإجماع والقياس . وأشير إلى الإجماع بقوله : { وأولي الأمر } لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم . ووجب أن يكون معصوماً لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال . ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون ، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون ، أو على ما روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية .

أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني . أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم والاستفادة منه ، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطاً ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة . فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معاً وهو باطل . وأيضاً الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد ، ولفظ أولي الأمر جمع . أيضاً إنه قال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وعلى هذا ينبغي أن يقال : فردوه إلى الأمام . وإما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوب طاعتهم ، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب . وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسماً منفصلاً كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول . أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلاً فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة . وأيضاً قوله : { فإن تنازعتم في شيءٍ } مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع . وأيضاً طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق . وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء . فالمراد بقوله : { وأولي الأمر } ما اجتمعت الأمة عليه وهو المدعى . وأما القياس فذلك قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكراراً لما تقدم ، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات ، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل ، فالرد إليها لا يكون رداً إلى الله والرسول فإذاً المراد ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها وهذا معنى القياس ، فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله ، ثم لمن عدا الرسول بطاعة الرسول ، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم ، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها إن وقع اختلاف واشتباه بين الناس في حكم واقعة ما أن يستخرجوا لها وجهاً من نظائرها وأشباهها فما أحسن هذا الترتيب .

ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقاً سواء كان القياس جلياً أو خفياً ، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس . وقد اعتبر هذا الترتيب أيضاً في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان . وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله :{ إذ قلنا للملائكة اسجدوا }[ البقرة :34 ] بقياس هو قوله :{ خلقتني من نار وخلقته من طين }{ ص :76 ] فاستحق اللعن إلى يوم الدين . والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه . ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله : { أطيعوا } يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب ، فههنا يدل على الوجوب ظاهراً لأنه ختم الأوامر بقوله : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله : { فردوه } وحده . وأيضاً مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة ، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب . ثم هذا الوجوب يكون دائماً إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة . فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة ، والمبين أولى من المجمل . وأيضاً تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلهاً والإلهية دائمة فالوجوب دائم . وإنما كرر لفظ { أطيعوا } للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين ، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر . ومن إطلاق قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه } أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضاً . والمراد بالتنازع قال الزجاج : هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه { ذلك } الرد أو المأمور به في الآية { خير وأحسن تأويلاً } أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع . وقيل : الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تؤولون أنتم .

/خ70