المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَوۡمَ هُم بَٰرِزُونَۖ لَا يَخۡفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنۡهُمۡ شَيۡءٞۚ لِّمَنِ ٱلۡمُلۡكُ ٱلۡيَوۡمَۖ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّارِ} (16)

وقوله تعالى : { يوم هم بارزون } معناه في براز من الأرض ينفذهم البصر ويسمعهم{[9974]} الداعي ، ونصب { يوم } على البدل من الأول فهو نصب المفعول ، ويحتمل أن ينصب على الظرف ويكون العامل فيه قوله : { لا يخفى } وهي حركة إعراب لا حركة بناء ، لأن الظرف لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن كيومئذ ، وكقول الشاعر [ النابغة الذبياني ] : [ الطويل ]

على حين عاتبت المشيب على الصبا . . . وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع{[9975]}

وكقوله تعالى : { هذا يوم ينفع الصادقين }{[9976]} وأما في هذه الآية فالجملة أمر متمكن كما تقول : جئت يوم زيد فلا يجوز البناء ، وتأمل{[9977]} .

وقوله تعالى : { لا يخفى على الله منهم } أي من بواطنهم وسرائرهم ودعوات صدورهم ، وفي مصحف أبي بن كعب : «لا يخفى عليه منهم شيء » بضمير بدل المكتوبة{[9978]} .

وقوله تعالى : { لمن الملك اليوم } روي أن الله تعالى يقرر هذا التقدير ويسكت العالم هيبة وجزعاً ، فيجيب هو نفسه قوله : { لله الواحد القهار } قال الحسن بن أبي الحسن هو تعالى السائل وهو المجيب . وقال ابن مسعود : أنه تعالى يقرر فيجيب العالم بذلك ، وقيل ينادي بالتقرير ملك فيجيب الناس .

قال القاضي أبو محمد : وإذا تأمل المؤمن أنه لا حول لمخلوق ولا قوة إلا بالله ، فالزمان كله وأيام الدهر أجمع إنما الملك فيها { لله الواحد القهار } ، لكن ظهور ذلك للكفرة والجهلة يتضح يوم القيامة ، وإذا تأمل تسخير أهل السماوات وعبادتهم ونفوذ القضاء في الأرض فأي ملك لغير الله عز وجل .


[9974]:يعني: يشملهم ويتجاوزهم كلهم، يقال: نفذ القوم نفذا: جازهم وخلفهم، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إنكم مجموعون في صعيد واحد ينفذكم البصر).
[9975]:البيت للنابغة الذبياني، وهو من قصيدة له يمدح النعمان، ويعتذر إليه مما وشت به بنو قرع بن عوف، ويهجو مرة بن ربيعة لما قذف في حقه عند النعمان، و(على) بمعنى (في)، كقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها}، والجار والمجرور متعلقان بقوله في البيت السابق: (فكفكفت مني عبرة)، (وعلى الصبا) متعلق ب (عاتبت)، والمعنى: كفكفت الدمع في وقت عتابي نفسي لنفسي على فعل التصابي في حالة مشيبها، والعتاب للمشيب مجاز. والشاهد هو بناء (حين) على الفتح لأنها مضافة إلى مبني غير متمكن، والبيت في الديوان، وابن الشجري، وابن يعيش، والإنصاف، وشرح شواهد المغني، وخزانة الأدب، والعيني، والهمع. وقد سبق الاستشهاد به في غير هذا الموضع من هذا التفسير.
[9976]:من الآية (119) من سورة (المائدة).
[9977]:ذكر أبو حيان كلام ابن عطية هذا في البحر المحيط، ثم عقب عليه بقوله: (أما قوله: (لا يبنى إلا إذا أضيف إلى غير متمكن) فالبناء ليس متحتما، بل يجوز فيه البناء والإعراب، وأما تمثيله بقوله تعالى: {يوم ينفع الصادقين صدقهم} فمذهب البصريين أنه لا يجوز فيه إلا الإعراب، ومذهب الكوفيين جواز الإعراب والبناء فيه، وأما إذا أضيف إلى جملة اسميه كما مثل من قوله: (جئت يوم زيد أمير) فالنقل عن البصريين تحتم الإعراب كما ذكر ابن عطية، والنقل عن الكوفيين جواز الإعراب والبناء).
[9978]:أي: بدلا من لفظ الجلالة (الله).