المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن . وأن لا يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ، لما في ذلك وفي التجسس من التقاطع والتدابر . وحكم على بعضه بأنه { إثم } إذ بعضه ليس بإثم . ولا يلزم اجتنابه وهو ظن الخير بالناس وحسنه بالله تعالى . والمظنون من شهادات الشهود والمظنون به من أهل الشر . فإن ذلك سقوط عدالته وغير ذلك هي من حكم الظن به . وظن الخير بالمؤمن محمود والظن المنهي عنه : هو أن تظن سوءاً برجل ظاهره الصلاح . بل الواجب تنزيل الظن وحكمه وتتأول الخير . وقال بعض الناس : { إثم } معناه : كذب . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث »{[10475]} . وقال بعض الناس . معنى : { إن بعض الظن إثم } أي إذا تكلم الظان أثم . وما لم يتكلم فهو في فسحة . لأنه لا يقدر على دفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : «الحزم سوء الظن »{[10476]} . وذكر النقاش عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال :( احترسوا من الناس بسوء الظن ){[10477]} .

قال القاضي أبو محمد : وما زال أولو العلم يحترسون من سوء الظن ويسدون ذرائعه .

قال سلمان الفارسي : إني لأعد عراق قِدْري{[10478]} مخافة الظن . وذكر النقاش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «احترسوا من الناس بسوء الظن . » وكان أبو العالية يختم على بقية طعامه مخافة سوء الظن بخادمه .

وقال ابن مسعود : الأمانة خير من الخاتم . والخاتم خير من ظن السوء .

وقوله : { ولا تجسسوا } أي لا تبحثوا على مخبآت أمور الناس وادفعوا بالتي هي أحسن . واجتزوا بالظواهر الحسنة .

وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين والهذليون : «لا تحسسوا » بالحاء غير منقوطة . وقال بعض الناس : التجسس بالجيم في الشر . والتحسس بالحاء في الخير . وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . وقال أبو عمرو بن العلاء : التجسس : ما كان من وراء وراء . والتحسس بالحاء : الدخول والاستعلام . وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً »{[10479]} . وذكر الثعلبي حديث حراسة عمرو بن عوف ووجودهما الشرب في بيت ربيعة بن أمية بن خلف . وذكر أيضاً حديثه في ذلك مع أبي محجن الثقفي{[10480]} . وقال زيد بن وهب . قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا نهينا عن التحسس . فإن يظهر لنا شيء أخذنا به{[10481]} .

{ ولا يغتب } معناه : ولا يذكر أحدكم من أخيه شيئاً هو فيه يكره سماعه . وروي أن عائشة قالت عن امرأة : ما رأيت أجمل منها إلا أنها قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتبتها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرته »{[10482]} وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ذكرت ما في أخيك فقد اغتبته . وإذا ذكرت ما ليس فيه فقد بهته »{[10483]} . وفي حديث آخر : «الغيبة أن تذكر المؤمن بما يكره » . قيل : وإن كان حقاً . قال : «إذا قلت باطلاً فذلك هو البهتان »{[10484]} . وقال معاوية بن قرة وأبو إسحاق السبيعي{[10485]} : إذا مر بك رجل اقطع . فقلت : ذلك الأقطع ، كان ذلك غيب . وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب فيتوب الله عليه . والذي يغتاب يتوب فلا يتاب عليه حتى يستحل »{[10486]} .

قال القاضي أبو محمد : وقد يموت من اغتيب ، أو يأبى .

وروي أن رجلاً قال لابن سيرين : إني قد اغتبتك فحللني . فقال له ابن سيرين إني لا أحل ما حرم الله . والغيبة مشتقة من غاب يغيب . وهي القول في الغائب واستعملت في المكروه . ولم يبح في هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه من تجريح في الشهود وفي التعريف لمن استنصح في الخطاب ونحوهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم :

«أما معاوية فصعلوك لا مال له »{[10487]} . وما يقال في الفسقة أيضاً وفي ولاة الجور ويقصد به التحذير منه . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أعن الفاجر ترعون ؟ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يعرفه الناس إذا لم تذكروه »{[10488]} ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «بئس ابن العشيرة »{[10489]} . ثم مثل تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم . فمنه قول الشاعر [ سويد بن أبي كاهل اليشكري ] : [ الرمل ]

فإذا لاقيته عظّمني . . . وإذا يخلو له لحمي رتع{[10490]}

ويروى فيحييني إذا لاقيته .

ومنه قول الآخر : [ المقنع الكندي ] .

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . . وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا{[10491]}

فوقفهم الله تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } فالجواب عن هذا : لا . وهم في حكم من يقولها . فخوطبوا على أنهم قالوا لا . فقيل لهم : { فكرهتموه } وبعد هذا مقدر تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك . وعلى هذا المقدر يعطف قوله : { واتقوا الله } قاله أبو علي الفارسي . وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليها الطبع . وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل . وهو أحق أن يجاب . لأنه بصير عالم . والطبع أعمى جاهل .

وقرأ الجمهور : «ميْتاً » بسكون الياء . وقرأ نافع وابن القعقاع وشيبة ومجاهد : «ميِّتاً » بكسرها والشد . وقرأ أبو حيوة : «فكُرّهتموه » بضم الكاف وشد الراء .

ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم أعلم بأنه { تواب رحيم } إبقاء منه تعالى وإمهالاً وتمكيناً من التوبة .


[10475]:أخرجه مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو جزء من حديث ذكره السيوطي في الدر المنثور، ولفظه كما ذكره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إياكم والظن فغن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك).
[10476]:أخرجه أبو الشيخ في الثواب عن علي، والقضاعي عن عبد الرحمن بن عائذ، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث حسن.
[10477]:أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن عدي في الكامل، عن أنس رضي الله عنه، ورمز له السيوطي في الجامع الصغير بانه ضعيف.
[10478]:العُراق-بضم العين-: العظم أكل لحمه، وفي بعض النسخ"لا أعد" بدلا من "لأعد".
[10479]:سبق الاستشهاد بالجزء الأول منه وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، وقد ذكرنا تخريجه في الهامش(1) صفحة(505) من هذا الجزء.
[10480]:حديث حراسة عمر مع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن ابن عوف، عن المسور بن مخرمة، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إنه حرس مع عمر ابن الخطاب ليلة بالمدينةن فبينما هم يمشون شبّ لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذ باب مُجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر-وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف-: اتدري بيت من هذا؟ قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب فما ترى؟ قال: أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال الله:{ولا تجسسوا} فقد تجسسنا، فانصرف عنهم وتركهم، والشرب: القوم يشربون ويجتمعون على الشراب. وأما حديثه مع أبي محجن الثقفي فقد قال أبو قُلابة: حُدّث عمر بن الخطاب أن أبا مِحجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر رضي الله عنه حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو مِحجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
[10481]:أخرجه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو دواد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان"، عن زيد بن وهب، وليس في الحديث ذكر لاسم الوليد بن عقبة، بل ذكره السيوطي في الدر المنثور بلفظ"هذا لان تقطر لحيته خمرا"
[10482]:أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة، قال: إن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرجتن فقالت عائشة: يا رسول الله، ما أجملها وأحسنها لولا أن بها قصرا،فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:(اغتبتيها يا عائشة)، فقالت: يا رسول الله، إنما قلت شيئا هو بها، قال:(يا عائشة، إذا غيبة، وإذا قلت ما ليس بها فقد بهتها)،(الدر المنثور).
[10483]:أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: يا رسول الله، أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته.(الدر المنثور). والبهتان هو القذف بالباطل.
[10484]:أخرج عبد بن حميد، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق"عن عبد المطلب بن حنطب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الغيبة أن تذكر المرء بما فيه)، قال: إنما كنا نرى أن نذكره بما ليس فيه، قال:(ذاك البهتان).
[10485]:معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني، أبو إياس البصري، ثقة، عالم، مات سنة ثلاث عشرة ومائة، وهو ابن ست وسبعين سنة، وأبو إسحق السبيعي هو عمر بن عبد الله الهمداني، والسبيعي بفتح السين المهملة وكسر الباء، مكثر، ثقة، عابد، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك، (تقريب التهذيب).
[10486]:أخرجه ابن مردويه، والبيهقي، عن أبي سعيد، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (الدر المنثور). ومعنى (يستحل): يسأله أن يُحله من أمره ويصفح عنه.
[10487]:أخرجه مسلم في الرضاع والطلاق، وأبو داود في الطلاق، والترمذي والنسائي في النكاح، ومالك في الطلاق، وأحمد في مسنده(6-412)، ولفظه كما جاء في صحيح مسلم، عن أبي بكر بن الجهم بن صُخير العدوي، قال: سمعت فاطمة بنت قيس تقول: إن زوجها طلقها ثلاثا، فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سُكنى ولا نفقة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حللت فآذنيني، فآذنته، فخطبها معاوية وأبو جهم وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فرجل ترب لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضرّاب للنساء، ولكن أسامة بن زيد، فقالت بيدها هكذا:أسامة أسامة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله وطاعة رسوله خير لك، قالت: فتزوجته فاغتبطت. ومعنى ترب: فقير.
[10488]:أخرجه البيهقي-وضعفه- من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده.(ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور).
[10489]:أخرجه البخاري وأبو داود في الأدب، ومسلم في البر، ومالك في حسن الخلق، وأحمد في المسند(6-38، 80، 158، 173) ولفظه كما جاء في مسند أحمد، عن عروة ابن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، وقال مرة رجل، فلما دخل عليه ألان له القول، فلما خرج قالت له عائشة: قلت له الذي قلت ثم ألنت له القول؟ فقال:(أي عائشة، شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فُحشه).
[10490]:الشاعر هو سويد بن أبي كاهل، من بني يشكر، شاعر مخضرم، عاش في الجاهلية طويلا، وعمر في الإسلام ستين سنة، وبيته هذا من قصيدة له تعتبر من أغلى الشعر وأنفسه، وهي المفضلية رقم40، قال الأصمعي عنها:"كانت العرب تفضلها وتقدمها وتعدها من حِكمها، وكانت في الجاهلية تسميها اليتيمة لما اشتملت عليه من الأمثال، قال في مطلعها: بسطت رابعة الحبل لنا فوصلنا الحبل منها ما اتسع ورواية البيت في المُفضليات، وفي الشعر والشعراء، "ويحييني إذا لاقيته"وفي اللسان: "وحبيب لي إذا لاقيته"، وكان الحجاج قد تمثل يوم روستقباذ على المنبر بابيات من قصيدة سويد هذه، منها هذا البيتن ومعنى رتع: أكل، والرتع في الأصل هو الأكل في الخصب.
[10491]:هذا البيت للمقنع الكِندي، واسمه محمد بن عمير، كان من أجمل الناس وجها، وأمدهم قامة، فكان إذا كشف عن وجهه أصيب بالعين، فكان يتقنع دهره، فسمي بالمقنع، والبيت ضمن أبيات يقولها في قومه، ومنها: لا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وليسوا إلى نصري سِراعا وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا والبيت هنا شاهد على أن العرب تستعمل أكل اللحم في مكان الغيبة، فالمعنى هنا: إذا هم اغتابوني وذكروني في غيبتي بما أكره فلست أفعل مثلهم، بل أصون أعراضهم ولا أتناول حدا منهم بسوء.