فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } يقال : جنبه الشر إذا أبعده عنه ، وحقيقته جعله في جانب ، فيعدى إلى مفعولين ، قال تعالى : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } ومطاوعه اجتنب الشر فنقص مفعولا ، والظن هنا مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ، وأمر سبحانه باجتناب الكثير وأبهم ، ليفحص المؤمن عن كل ظن بظنه حتى يعلم وجهه ، لأن من الظن ما يجب اتباعه ، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبينة على الظن ، كالقياس ، وخبر الواحد ، ودلالة العموم ولكن هذا الظن الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به ، فارتفع عن الشك والتهمة .

قال الزجاج : وهو أن يظن بأهل الخير سوءا فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظن بهم مثل الذي ظهر منهم ، قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : هو أن يظن بأخيه المسلم سوءا ، ولا بأس به ما لم يتكلم به ، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه إثم ، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء أن الظن القبيح بمن ظاهره الخيرلا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح .

وجملة { إن بعض الظن إثم } تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظن ، وهذا البعض هو ظن السوء بأهل الخير ، والإثم هو ما يستحقه الظان من العقوبة ، ومما يدل على تقييد هذا الظن المأمور باجتنابه بظن السوء قوله تعالى : { وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا } فلا يدخل في الظن المأمور باجتناب شيء من الظن المأمور باتباعه من مسائل الدين ، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه ، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم ، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة ، كيادا للدين ، وشذوذا عن جمهور المسلمين ، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة ، بل في أكثرها ، قال أبو السعود : من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله تعالى ، ومنه ما حرم كالظن في الإلهيات والنبوات ، وحيث يخالف قاطع وظن السوء بالمؤمنين ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية أ ه . وقيل : الظن أنواع فمنه واجب ومأمور به ، وهو الظن الحسن بالله عز وجل ، ومنه مندوب إليه ، وهو الظن الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة ، ومنه حرام محظور ، وهو سوء الظن بالله عز وجل ، وسوء الظن بالأخ المسلم ، قال ابن عباس في الآية ، نهى الله المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا .

وعن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا " {[1525]} الحديث أخرجه الشيخان .

ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال :

{ ولا تجسسوا } التجسس البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم ، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معائب الناس ومثالبهم ، حتى يطلع عليها بعد أن سترها الله تعالى ، وقرأ الجمهور بالجيم ، ومعناه ما ذكرنا وقرئ بالحاء قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما عن الآخر ، لأن التجسس بالجيم هو البحث عما ينكتم عنك ، والتحسس بالحاء طلب الإخبار والبحث عنها ، وقيل ؛ إن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور ، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه ، وقيل : إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره ، قاله ثعلب والأول أعرف . يقال : تحسست الأخبار وتجسستها أي : تفحصت عنها .

قال ابن عباس : نهى الله المؤمنين عن تتبع عورات المؤمن وعن زيد بن وهب قال : أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان يقطر لحيته خمرا ، فقال ابن مسعود إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه قال مجاهد : خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله .

وعن عقبة بن عامر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة " أخرجه أبو داود .

وعن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة " {[1526]} رواه مسلم .

وفي كتاب أبي داود عن معاوية قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات المسلمين أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم " ، فقال أبو الدرداء كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنفعه الله بها . وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين والتجسس عن عيوبهم .

{ ولا يغتب بعضكم بعضا } أي لا يتناول بعضكم بعضا بظهر الغيب بما يسوءه ، يقال اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه والاسم الغيبة ، وهي ذكر العيب بظهر الغيب يعني : أن تذكر الرجل بما يكرهه .

كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح لمسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ فقال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه بهته " {[1527]} قال : ابن عباس : حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء كما حرم الميتة والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جدا معروفة في كتب الحديث ، قال السحن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى ، الغيبة ، والإفك ، والبهتان ، فأما الغيبة : فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه ، وأما الإفك : فهو أن تقول فيه ما بلغك عنه ، وأما البهتان : فهو أن تقول ما ليس فيه ، ولا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وعلى أن من اغتاب أحدا التوبة إلى الله أو الاستغفار لمن اغتابه أو الإستحلال منه ، وللشوكاني رسالة في ذلك ، سماها : رفع الريبة عن مسألة الغيبة ، وهي نفيسة جدا .

{ أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ؟ } مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه ، كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه ، ذكر معناه الزجاج ، وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه وأنه كما يحرم أكل لحمه تحرم الاستطالة في عرضه ، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتقبيح لها والتوبيخ لفاعلها والتشنيع عليه ما لا يخفى ، فإن لحم الإنسان مما تنفر عنه الطباع الإنسانية ، وتستكرهه الجبلة البشرية فضلا عن كونه محرما شرعا ، وفيه مبالغات ، منها الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم للتعميم ، والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا ، ومنها أنه لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعله ميتا ، فهذا تمثيل على أفحش وجه .

{ فكرهتموه } أي فاغتيابه في حياته كأكل لحمه بعد مماته ، فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية ، وفي هذا التمثيل والتشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه ، لأن الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض ، كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا من باب القياس الظاهر ، لأن عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الإنسان ، لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ، لأن ذلك أشد ألما قال الفراء : تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا ، والمعنى فلما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء ، أو المعنى فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا ، قال الرازي : الفاء في تقديره جواب كلام كأنه قال : لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه إذن ، وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره عليكم ذلك فكرهتموه ، ولا يمكنكم إنكار كراهته ، وبه قال البيضاوي ، وقيل : إن صح ذلك عندكم فأنتم تكرهونه ، وقيل هو خبر بمعنى الأمر .

{ واتقوا الله } بترك ما أمركم باجتنابه { إن الله تواب رحيم } لمن اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب ، ومخالفة الأمر ، والمبالغة في ( التواب ) للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده ، أو لأنه ما من ذنب يقترفه العبد إلا كان معفوا عنه بالتوبة ، أو لأنه لما بولغ في قبول التوبة نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه .


[1525]:رواه مسلم.
[1526]:رواه مسلم.
[1527]:رواه مسلم.