تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

الآية 12 وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } ههنا أسماء ثلاثة يجب أن يُتَعرّف ما محلّها ؟ وما قدرها ؟ وكيف أسبابها ؟ أحدها : الظن ، والثاني : الشك ، والثالث : العلم واليقين .

أما الظن فكأنه هو الذي له ظاهر الأسباب التي لها خوف الزوال والانتقال .

والشكّ : هو الذي فقد ظاهر أسبابه ، أو له استواء الأسباب ومقابلة بعضها بعضا ، فهو المتردّد بين الحالين ، لا يقرّ قلبه على شيء .

واليقين : هو الذي له الأسباب الظاهرة التي ليس لها خوف الزوال والانتقال ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { اجتنبوا كثيرا من الظن } كأنه نهى أن يحقَّق [ القول ]{[19678]} أو العمل في صاحبه بسوء على ظاهر الأسباب التي هي على شرف الزوال وطرف الانتقال ، يجوز أن تكون غير محقّقة في الأصل أو زائلة ، والله أعلم .

ثم في الآية دليل على أنه ليس كل ظن يُجتنب عنه ، ولا كل الظن يكون إثما لأنه استثنى منه بعضه بقوله : { إن بعض الظن } فجائز أن يكون /523-با استثنى من الظن ، ولا يُؤمَن بالاجتناب عنه ، هو ما تغلب عليه الأسباب ، وغالب الأسباب ربما يعمل عمل العلم واليقين بحق المُكره على شيء يرخّص له ، ويباح العمل إذا رأى من ظاهر حال المكروه أنه فاعل به ما أوعده ، وإن كان يجوز ألا يفعل به ، أو لا يقدر على ما أوعده .

وعلى ذلك موضوع عامة الأحكام والشرائع بين الخلق أنها على غالب الظن وُضعت ، ليس على التحقيق ، والله أعلم .

ويحتمل أن يرجع ما استثنى من الظن القليل الذي لا إثم فيه إلى الظن الحسن ؛ إذ يجوز أن يظن الإنسان الظن الحسن ، ولا إثم فيه . إنما الأمر بالاجتناب إلى الظن بالسوء على غير تحقُّق أسباب أو غير تحقّق غير ذاك ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا تجسّسوا } التّجسُّس ، هو تكلف طلب المساوئ في الناس من غير أن يظهر منهم من أسبابها شيء . فنهى عن تكلّف طلب ذلك أو عن الإظهار ، وأمر بالسّتر .

وبمثل ذلك رُوي في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له : هل لك في فلان ، تقطُر لحيته خمرا ؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إن يظهر لنا شيء نأخذه ، وإلا فإن الله تعالى قد نهانا عن التجسّس ، والله أعلم .

وفرّق بعضهم بين التجسُّس والتحسُّس ، فقال بالجيم في الشرور والمساوئ وبالحاء{[19679]} في الخير وفي ما يباح طلبه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولا يغتب بعضكم بعضا } الغيبة ترجع إلى وجهين :

أحدهما : أن يُذكر ما فيه من مساوئ الأفعال التي سترها عن أعين الناس مما يكره إظهار ذلك عنه .

والثاني : [ أن ]{[19680]} يُذكر ما فيه من قبح الأحوال والأخلاق التي لا تكاد تذكر ذلك منه ، أو تظهر .

وعلى ذلك رُوي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه نهى أن يذكر الرجل أخاه بما فيه مما يكره ، فقيل : إنما كنا نذكره بالشيء الذي فيه لا بما ليس فيه . قال : ذلك البهتان ) [ بنحوه الخرائطي في مساوئ الأخلاق 209 ] .

وقوله تعالى : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } أي لا يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد موته ، فكأنه يقول : فإذا لم يحب هذا ، وكرهه ، بل يستقذره كل استقذار ، فالغيبة هي تنازل من أخيه ، وهو وحيّ . فهو في القبح يبلُغ التناول منه بعد موته . فإن كان لا أحد يتناول من لحم أخيه بعد موته لا في حال اختياره ولا في حال اضطراره ، فلا تغتابوا ، ولا تذكروا منه ما فيه فإنه في القبح ذلك .

[ وقوله تعالى : { واتقوا الله إن الله توّاب رحيم } أي اتقوا الله عما نهاكم عنهم { إن الله توّاب } لمن تاب ، أي قابل توبته { رحيم } أي يرحم عليه ، ويعفو عنه ، إذا تاب ، والله الموفّق ]{[19681]} .


[19678]:ساقطة من الأصل وم.
[19679]:انظر معجم القراءات القرآنية ج6/224.
[19680]:ساقطة من الأصل وم.
[19681]:ساقطة من م.