البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

تجسس الأمر : تطلبه وبحث عن خفيه ، تفعل من الجس ، ومنه الجاسوس : وهو الباحث عن العورات ليعلم بها ؛ ويقال لمشاعر الإنسان : الحواس ، بالحاء والجيم .

{ اجتنبوا كثيراً من الظن } : أي لا تعملوا على حسبه ، وأمر تعالى باجتنابه ، لئلا يجترئ أحد على ظن إلا بعد نظر وتأمل وتمييز بين حقه وباطله .

والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه بأنه إثم ، وتمييز المجتنب من غيره أنه لا يعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، كمن يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث ، كالدخول والخروج إلى حانات الخمر ، وصحبة نساء المغاني ، وإدمان النظر إلى المرد .

فمثل هذا يقوي الظن فيه أنه ليس من أهل الصلاح ، ولا إثم فيه ، وإن كنا لا نراه يشرب الخمر ، ولا يزني ، ولا يعبث بالشبان ، بخلاف من ظاهره الصلاح فلا يظن به السوء .

فهذا هو المنهي عنه ، ويجب أن يزيله .

والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب .

وقال الزمخشري : والهمزة فيه بدل عن الواو ، كأنه يثم الأعمال ، أي يكسرها بإحباطه ، وهذا ليس بشيء ، لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز .

تقول : أثم يأثم فهو آثم ، والإثم والآثام ، فالهمزة أصل وليست بدلاً عن واو .

وأما يثم فأصله يوثم ، وهو من مادة أخرى .

وقيل : الاثم متعلق بتكلم الظان .

أما إذا لم يتكلم ، فهو في فسحة ، لأنه لا يقدر على رفع الخواطر التي يبيحها قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الحزم سوء الظن " وقرأ الجمهور : ولا تجسسوا بالجيم .

وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء وهما متقاربان ، نهى عن تتبع عورات المسلمين ومعايبهم والاستكشاف عما ستروه .

وقيل لابن مسعود : هل لك في فلان تقطر لحيته خمراً ؟ فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن ظهر لنا شيء أخذنا به .

وفي الحديث : " أن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " ، وقد وقع عمر رضي الله تعالى عنه في حراسته على من كان في ظاهره ريبة ، وكان دخل عليه هجماً ، فلما ذكر له نهي الله تعالى عن التجسس ، انصرف عمر .

{ ولا يغتب بعضكم بعضاً } ، يقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله ؛ والغيبة من الاغتياب ، كالغيلة من الاغتيال ، وهي ذكر الرجل بما يكره مما هو فيه .

وفي الحديث : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة فقال : أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع ، فقال : يا رسول الله وإن كان حقاً ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قلت باطلاً فذلك البهتان " ، وفي الصحيحين فقد بهته .

وقال ابن عباس : الغيبة أدام كلاب الناس .

" وقالت عائشة عن امرأة : ما رأيت أجمل منها ، إلا أنها قصيرة .

فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «اغتبتيها ، نظرت إلى أسوأ ما فيها فذكرتيه " وحكى الزهراوي عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الغيبة أشد من الزنا ، لأن الزاني يتوب الله عليه ، والذي يغتاب فلا يتاب عليه حتى يستحل ، وعرض المسلم مثل دمه في التحريم "

وفي الحديث المستفيض : « فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم » ولا يباح من هذا المعنى إلا ما تدعو الضرورة إليه ، من تجريح الشهود والرواة ، والخطاب إذا استنصح من يخطب إليه من يعرفهم ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ومنه :

وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم . . .

{ أيحب أحدكم } ، قال الزمخشري : تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه ، وفيه مبالغات شتى ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى أحدكم والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها : أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخاً ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً . انتهى .

وقال الرماني : كراهية هذا اللحم يدعو إليه الطبع ، وكراهية الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب ، لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل . انتهى .

وقال أبو زيد السهيلي : ضرب المثل لأخذه العرض يأكل اللحم ، لأن اللحم ستر على العظم ، والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر .

وقال تعالى : { ميتاً } ، لأن الميت لا يحس ، وكذلك الغائب لا يسمع ما يقول فيه المغتاب ، ثم هو في التحريم كآكل لحم الميت . انتهى .

وروي في الحديث : « ما صام من أكل لحوم الناس » وقال أبو قلابة الرياشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحداً منذ عرفت ما في الغيبة .

وقيل : لعمر بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا .

وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني ، قال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي .

وانتصب ميتاً على الحال من لحم ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب عن الأخ ، وهو ضعيف ، لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الإعراب ، نحو : أعجبني ركوب الفرس مسرجاً ، وقيام زيد مسرعاً .

فالفرس في موضع نصب ، وزيد في موضع رفع .

وقد أجاز بعض أصحابنا أنه إذا كان الأول جزأ أو كالجزء ، جاز انتصاب الحال من الثاني ، وقد رددنا عليه ذلك فيما كتبناه في علم النحو .

{ فكرهتموه } ، قال الفراء : أي فقد كرهتموه ، فلا تفعلون .

وقيل : لما وقفهم على التوبيخ بقوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } ، فأجاب عن هذا : لأنهم في حكم من يقولها ، فخوطبوا على أنهم قالوا لا ، فقيل لهم : فكرهتموه ، وبعد هذا يقدر فلذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك .

وعلى هذا التقدير يعطف قوله : { واتقوا الله } ، قاله أبو علي الفارسي ، وفيه عجرفة العجم .

وقال الزمخشري : ولما قررهم عز وجل بأن أحداً منهم لا يحب أكل جيفة أخيه ، عقب ذلك بقوله : { فكرهتموه } ، أي فتحققت بوجوب الإقرار عليكم بأنكم لا تقدرون على دفعه وإنكاره لإباء البشرية عليكم أن تجحدوا كراهتكم له وتقذركم منه ، فليتحقق أيضاً أن تكرهوا ما هو نظيره من الغيبة والطعن في أعراض المسلمين .

انتهى ، وفيه أيضاً عجرفة العجم .

والذي قدره الفراء أسهل وأقل تكلفاً ، وأجرى على قواعد العربية .

وقيل : لفظه خبر ، ومعناه الأمر ، تقديره : فاكرهوه ، ولذلك عطف عليه { واتقوا الله } ، ووضع الماضي موضع الأمر في لسان العرب كثير ، ومنه اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه ، أي ليتق الله ، ولذلك انجزم يثب على جواب الأمر .

وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية .

جاء الأمر أولاً باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم ، وهو الظن ؛ ثم نهى ثانياً عن طلب تحقق ذلك الظن ، فيصير علماً بقوله : { ولا تجسسوا } ؛ ثم نهى ثالثاً عن ذكر ذلك إذا علم ، فهذه أمور ثلاثة مترتبة ، ظنّ فعلم بالتجسس فاغتياب .

وضمير النصف في كرهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل .

وقيل : على الميت .

وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، الظاهر أنه عائد على الأكل .

وقيل : على الميت .

وقرأ أبو سعيد الخدري ، وأبو حيوة : فكرّهتموه ، بضم الكاف وتشديد الراء ؛ ورواها الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والجمهور : بفتح الكاف وتخفيف الراء ، وكره يتعدى إلى واحد ، فقياسه إذا ضعف أن يتعدى إلى اثنين ، كقراءة الخدري ومن معه ، أي جعلتم فكرهتموه .

فأما قوله : { وكره إليكم الكفر } فعلى التضمين بمعنى بغض ، وهو يتعدى لواحد ، وبإلى إلى آخر ، وبغض منقول بالتضعيف من بغض الشيء إلى زيد .

والظاهر عطف { واتقوا الله } على ما قبله من الأمر والنهي .