{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ( 12 ) } .
ولا تجسسوا : ولا تبحثوا سرا عن عورات الناس وشؤونهم الخاصة لتطلعوا على مخفياتهم .
( 1 ) أمر المسلمين باجتناب الظنون والتخمينات والأخذ بها والحكم على الأمور بموجبها ، فإن من الظنون ما هو خطأ يجر صاحبه إلى الإثم .
( 2 ) ونهي لهم عن البحث عن عورات بعضهم ومخفيات أمورهم وكشفها عن اغتياب بعضهم بعضا وذكره بالسوء في غيابه . وسؤال إنكاري على سبيل توكيد النهي عن الغيبة بخاصة عما إذا كان يحب أحدهم أن يأكل لحم أخيه ميتا وتقرير لما هو طبيعي من كراهية ذلك .
( 3 ) وحث على تقوى الله ومراقبته والتوبة عن مثل هذه الأعمال البغيضة المكروهة المؤذية مع التنبيه على أن الله تعالى تواب يقبل توبة التائب يشمله برحمته .
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثير من الظن إن بعض الظن إثم } الخ
وما فيها من تلقين وما روي في صددها من أحاديث .
وقد روى المفسرون{[1984]} أن الآية نزلت أثناء غزوة غزاها النبي ؛ حيث ضم سلمان الفارسي إلى شخصين موسرين ، وهذا من عادة النبي حينما يخرج إلى غزاة ليخدمهما ويأكل معهما فغلبته عيناه مرة ، فلم يجهز لهما طعاما فأرسلاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسله إلى أسامة ابن زيد خازن المؤونة فقال له : ليس عندي شيء ، فأرسله إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا . فقالوا له : لو أرسلناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان على أسامة ؛ ليعلما إن كان عنده طعام ومنعه ، وأخذا يغمزان سلمان ويغتابان أسامة ، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ قالا : والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا لحما قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فأنزل الله الآية .
ومع احتمال حدوث مناسبة مثل مناسبة المروية ، فإن الاتصال والتساوق والتجانس بينها وبين آيات السورة قائم . وما قلناه في صدد سابقاتها من كون المناسبات قد حدثت قبل نزول السورة ، فكانت وسيلة لما احتوته من تأديب وتعليم يقال هنا أيضا .
ولقد استهدفت الآية تنبيه المسلمين إلى وجوب رعاية حقوق بعضهم وأعراضهم في الغياب وتغليب حسن الظن في بعضهم وكبت غريزة الاستطلاع والتجسس على أسرار بعضهم ومخفياتهم وتلقينها عام مستمر المدى كسابقاتها .
وتعبير { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا }تعبير قوي لاذع بسبيل تعظيم إثم غيبة الناس واستنكارها .
وهكذا تتكامل سلسلة التأديبات الرفيعة ليكون المسلمون بها مثال مكارم الأخلاق منزهين عن سيئاتها ومكروهاتها الخاصة والعامة .
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث نبوية عديدة قوية التلقين والعظة في صدد منهياتها منها حديث أخرجه ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر قال ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه ، وأن يظن به إلا خيرا ) {[1985]} وحديث رواه البخاري وأبو داود جاء فيه ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) {[1986]} وحديث رواه أبو داود عن معاوية قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أوكدت أن تفسدهم ) {[1987]} وحديث رواه أبو داود عن أبي برزة الأسلمي جاء فيه ( يا معشر من آمن بلسانه ، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) {[1988]} وحديث أخرجه الإمام أحمد عن جابر ابن عبد الله قال ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فارتفعت ريح جيفة منتنة ، فقال رسول الله : أتدرون ما هذه الريح . هذه ريح الذي يغتابون الناس ) {[1989]} وحديث أخرجه الإمام أحمد كذلك عن معاذ ابن أنس الجهني عن أبيه قال : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ) {[1990]} وحديث رواه أبو داود عن جابر ابن عبد الله وأبي طلحة ابن سهل الأنصاري قال ( سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته ، وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقض فيه من عرضه ، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته ) {[1991]} وفي الحديثين الأخيرين إيجاب على كل مسلم أن يدافع عن أخيه المسلم إذا ما ذكر في مجلس سوء .
وهذه طائفة من أحاديث نبوية أخرى في صور من الاغتياب المكروهة التي نبه رسول الله عليها وندد بها ونهى عنها . منها أحاديث رواها الطبري بطرقه ، وهو من أئمة الحديث ومن ذلك عن أبي هريرة جاء فيه ( إن رجلا قام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا : ما أعجز فلانا ؟ فقال رسول الله : أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه ) .
وحديث عن معاذ ابن جبل قال ( كنا عند رسول الله فذكر القوم رجلا ، فقال : ما يأكل إلا ما أطعم ، وما يرحل إلا ما يرحل له وما أضعفه ، فقال رسول الله : اغتبتم أخاكم . فقالوا : يا رسول الله وغيبته أن نحدث ما فيه فقال : بحسبكم أن تحدثوا عن أخيكم بما فيه ) وحديث عن أبي هريرة قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا ذكرت أخاك بما يكره ، فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) {[1992]} وحديث عن حسان ابن المخارق جاء فيه ( إن امرأة دخلت على عائشة ، فلما قامت لتخرج أشارت عائشة بعدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي : أنها قصيرة ، فقال رسول الله : اغتبتها ) {[1993]} وحديث رواه البغوي بطرقه عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ، فقال هؤلاء : الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم ) {[1994]} .
وهناك حديث يرويه أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق ومن الكبائر السبتان بالسبة ) {[1995]} وفي الأحاديث تعليم وتأديب نبويان واجبا الالتزام .
هذا ، وهناك حديث صحيح استنبط منه العلماء جواز غيبة الفاسق . وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت : ( استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، قلت : يا رسول الله ، قلت الذي قلت ، ثم ألنت له الكلام . قال : أي عائشة إن شر الناس من تركه الناس أو ودعه الناس اتقاء فحشه{[1996]} ) .
وهناك حديثان نبويان فيهما صورة الأخلاق رسول الله متصلة بالموضوع الذي نحن فيه رواهما أبو داود والترمذي أحدهما عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا ، فإن أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) {[1997]} وثانيهما عن عائشة قالت : ( حكيت للنبي إنسانا فقال : ما أحب أني حكيت إنسانا ، وأن لي كذا وكذا ) {[1998]} حيث ينطوي فيهما تأديب نبوي للمسلمين أيضا الذين أمروا بأن يكون لهم رسول الله الأسوة الحسنة .
ولقد شرحنا كلمة { ولا تجسسوا } بما شرحناه ؛ لأن هذا هو ما يلهمه مقامها ، والأحاديث التي أوردناها في صددها . ومن المعلوم أن هناك عملا آخر من أعمال التجسس وهو التجسس على الأعداء والتجسس لهم . والأول مبرر ، وهناك حديث رواه أبو داود عن أنس في هذا جاء فيه ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم بسيسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان ) {[1999]} وحديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال ( قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال الزبير : أنا . قالها ثلاثا ويجيبه الزبير ، فقال النبي : لكل نبي حواري وحواريي الزبير ) {[2000]} والثاني جريمة قد يكون ارتدادا ؛ لأن فيها توليا ونصرة للأعداء ومتولي الأعداء وناصرهم على المسلمين منهم ، وليس من الله في شيء كما جاء في آية سورة آل عمران هذه { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } ( 28 ) وآية سورة المائدة هذه { ومن يتولهم منكم فإنه منهم }{[2001]} .
وهناك حديثان يذكر أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل جاسوس من الأعداء ، وذكر ثانيهما أن النبي أمر بقتال من قال عن نفسه : إنه مسلم وتجسس للأعداء . وقد روى أولهما البخاري وأبو داود عن سلمة ابن الأكوع قال ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين وهو في سفر فجلس مع أصحابه يتحدث ، ثم انفتل فقال النبي : اطلبوه فاقتلوه . قال فقتلته فنفلني سلبه ){[2002]} وروى ثانيهما أبو داود وأحمد جاء فيه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل فرات ابن حيان ، وكان عينا لأبي سفيان ، وكان حليفا لرجل من الأنصار ، فمر بحلقة من الأنصار فقال : إني مسلم فقال النبي : إن منكم رجالا لا نكلهم إلى إيمانهم . منهم فرات ابن حيان{[2003]} .
ويرد على البال الجواسيس الذين تبثهم الحكومات بين رعاياها . فإن كان ذلك ضد المجرمين وجرائمهم حقا وصدقا فقد يكون مبررا ، وإن كان لغير ذلك ليكون إثما عند الله وداخلا في نطاق النهي القرآني والنبوي . والله تعالى أعلم .