غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

1

قوله { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } فيه تأديب آخر . ومعنى اجتنبوا كونوا منه في جانب . وإنما قال { كثيراً } ولم يقل الظن مطلقاً لأن منه ما هو واجب كحسن الظن بالله وبالمؤمنين كما جاء في الحديث القدسي " أنا عند ظن عبدي بي " قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " وقال " إن حسن الظن من الإيمان " ومنه ما هو محظور وهو سوء الظن بالله وبأهل الصلاح . عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء " وهو الذي أمر في الآية باجتنابه . ومنه ما هو مندوب إليه وهو إذا كان المظنون به ظاهر الفسق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم " من الحزم سوء الظن " وعن النبي صلى الله عليه وسلم " احترسوا من الناس بسوء الظن " ومنه المباح كالظن في المسائل الاجتهادية . قال أهل المعاني : إنما نكر { كثيراً } ليفيد معنى البعضية المصرح بها في قوله { إن بعض الظن إثم } ولو عرّف لأوهم أن المنهي عنه هو الظن الموصوف بالكثرة والذي يتصف بالقلة مرخص فيه . والهمزة في الإثم عوض عن الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه . تأديب آخر { ولا تجسسوا } وقد يخص الذي بالحاء المهملة بتطلب الخبر والبحث عنه كقوله { فتحسسوا من يوسف وأخيه } [ يوسف : 87 ] فبالجيم تفعل من الجس ، وبالحاء من الحس . قال مجاهد : معناه خذوا ما ظهر ودعوا ما ستره الله . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته " يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع عورته حتى يفضحه ولو كان في جوف بيته " وهذا الأدب كالسبب لما قبله . فلما نهى عن ذلك نهى عن سببه أيضاً . تأديب آخر { ولا يغتب } يقال غابه واغتابه بمعنى ، والاسم الغيبة بالكسر وهي ذكر العيب بظهر الغيب ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال " أن تذكر أخاك بما يكره فإن كنت صادقاً اغتبته وإن كانت كاذباً فقد بهته " ثم مثل ما يناله المغتاب من عرض صاحبه على أفظع وجه فقال { أيحب } إلى آخره . وفيه أنواع من المبالغة منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه ، ومنها إسناد الفعل إلى { أحدكم } ففيه إشعار بأنه لا أحد يحب ذلك ، ومنها تقييد المكروه بأكل لحم الإنسان ، ومنها تقييد الإنسان بالأخ ، ومنها جعل الأخ أو اللحم ميتاً ففيه مزيد تنفير للطبع . وإنما مثل بالأكل لأن العرب تقول لمن ذكر بالسوء إن الناس يأكلون فلاناً ويمضغونه ، وفلان مضغة للماضغ . شبهوا إدارة ذكره في الفم بالأكل . والميت لمزيد التنفير كما قلنا ، أو لأن الغائب كالميت من حيث لا يشعر بما يقال فيه . أما الفاء في قوله { فكرهتموه } ففصيحة أو نتيجة لأنها للإلزام أي بل عافته نفوسكم فكرهتموه . أو فتحققت بوجوب الإقرار وبحكم العقل وداعي الطبع كراهتكم للأكل أو اللحم أو الميت فليتحقق أيضاً أن تكرهوا لما هو نظيره وهي الغيبة . وقال ابن عباس : هي إدام كلاب الناس . وعنه أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما فنام عن شأنه يوماً فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة " لبئر من آبار مكة " لغار ماؤها . فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ؟ فقالا : ما تناولنا لحماً . فقال : إنكما قد اغتبتما فنزلت . قلت : قد تبين في الحديث أن في الآية مبالغة أخرى وهي أنه أراد باللحم الميت المدوّد المنتن المخضر ، وقد عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر الحسي عن الأمر المعنوي الذي أدركه بنور النبوّة منهما . واعلم أن الغيبة وإن كانت منهية إلا أنها مباحة في حق الفاسق . ففي الحديث " اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس " وروي " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له واتقوا الله فيما نهاكم وتوبوا فيما وجد منكم "

/خ18