فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } .

اجتنب : أصبح على جانب منه ، ثم شاع في التباعد اللازم له .

{ الظن } : يكون معناه إدراك الطرف الراجح- يقابل الشك- ويأتي بمعنى التهمة التي لم تعرف لها علامة صحيحة ولا سبب ظاهر- ولعله المراد في هذه الآية الكريمة .

الإثم : الذنب المستوجب للعقوبة .

تتابع الآيات الكريمة توصية المؤمنين بالخلق الكريم ، وأن تطهر بواطنهم وخواطرهم ومشاعرهم من أسباب التفرق والتنازع ، والتباغض والفشل ؛ كما بينت في الآيات السابقة ما يطهر ظواهرهم من الشقاق ، وسيء المسالك والأخلاق ؛ فأمرنا بالتباعد من سوء الظن فإنه يغضب الخالق- جل علاه- ويفسد أمر الخلائق .

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) لفظ البخاري .

يقول علماء أحكام القرآن : للظن حالتان : حالة تُعرف وتَقْوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها . . كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات ؛ والحالة الثانية : أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون أولى من ضده ، فهذا هو الشك فلا يجوز به ، وهو المنهي عنه . . الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم ، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه ؛ والمذموم ضده ، بدلالة قوله تعالى : { إن بعض الظن إثم . . }وقوله : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا . . }{[5186]} وقوله : { . . وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا }{[5187]} .

إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث . . أه .

{ ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم( 12 ) } .

ولا تترقب زلات العباد ، ولا تفتش عن دخائلهم ، ولا تتبع عوراتهم وتتلمس البحث عنها- وقد أشرنا قريبا إلى معنى التحسس والتجسس- ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكرهه ويسوؤه فإن من فعل ذلك فقد وقع في جريمة شنيعة منفرة كأنما ينهش ويطعم لحم أخيه الميت ، وهذا مما تشمئز منه النفوس لاقترافه ، واحذروا غضب الله على الظانين ظن السوء والمتتبعين للعورات والمغتابين ، إن الله – تبارك اسمه- كثيرة توبته وعظيمة رحمته لمن اتقى وتاب مما يكون قد ألم به .

يقول علماء القرآن : قيل إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما ، فضُم سلمان إلى رجلين فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا ، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما ، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك ) .

وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه ، فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل ؛ ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ؛ فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة{[5188]} لغار ماؤها ؛ ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ؛ فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) ؟ فقالا : يا نبي الله ، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره ؛ فقال : ( ولكنكما ظللتما تأكلان لحم سلمان وأسامة ) ، فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعد الظن إثم . . }ذكره الثعلبي ؛ أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير{[5189]} .


[5186]:سورة النور. من الآية 12.
[5187]:سورة الفتح. من الآية 12.
[5188]:بئر قديمة بالمدينة غزيرة الماء.
[5189]:أورد هذا القرطبي في تفسيره الجزء السادس عشر. ص331،330.