السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ يا أيها الذين آمنوا } أي : اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أوّل مراتبه { اجتنبوا } أي : كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم { كثيراً من الظنّ } أي : في الناس وغيرهم واحتاطوا في كل ظنّ ولا تتمادوا معه حتى تجزموا بسببه .

تنبيه : أفهم ذلك أنّ من الظنّ ما لا يجتنب كما في الاجتهاد حيث لا قاطع وكما في ظنّ الخير في الله تعالى : ففي الحديث «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظنّ بي إلا خيراً » بل قد يجب كما في قوله تعالى : { لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً } [ النور : 12 ] وقيل : نزلت في رجلين اغتابا رفيقهما . «وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ويتقدّم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما طعامهما وشرابهما فضمّ سلمان الفارسيّ إلى رجلين في بعض أسفاره فتقدّم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فلم يهيئ لهما فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ، قال : لا غلبتني عينايّ ، قالا له : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له : إن كان عندك فضل من طعام فليعطك وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رحله فأتاه فقال : ما عندي شيء فرجع سلمان إليهما فأخبرهما فقالا : كان عند أسامة ولكن بخل فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئاً فلما رجع قالا له : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا والله يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحماً . قال ظلتم تأكلون لحم أسامة وسلمان فأنزل الله عز وجلّ { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } .

وقوله تعالى : { إن بعض الظنّ إثم } تعليل مستأنف للأمر قال صلى الله عليه وسلم «إياكم والظنّ فإنّ الظنّ أكذب الحديث » والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وجعل الزمخشري همزه بدلاً من واو قال : لأنه يتم الأعمال أي يكسرها قال ابن عادل : وهذا غيره مسلم بل تلك مادّة أخرى .

قال سفيان الثوري : الظنّ ظنان : أحدهما : إثم وهو أن يظنّ ويتكلم به والآخر ليس بإثم وهو أن يظنّ ولا يتكلم به . وقوله تعالى { ولا تجسسوا } حذف منه إحدى التاءين أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعائبهم بالبحث عنها قال صلى الله عليه وسلم «لا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا و لا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً » وقال عليه الصلاة والسلام : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله » ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً فقال : إنا نهينا عن التجسس وإن يظهر لنا شيئاً نأخذه به .

تنبيه : قرأ ولا تنابزوا ولا تجسسوا ولتعارفوا البزي في الوصل بتشديد التاء والباقون بغير تشديد .

ولما كانت الغيبة أعمّ من التجسس قال : { ولا يغتب } أي : ولا يتعمد أن يذكر { بعضكم بعضاً } أي : في غيبته بما يكره . قال القشيري : وليس تحصل الغيبة للخلق إلا من الغيبة عن الحق وقال أبو حيان : قال ابن عباس : الغيبة إدام كلاب الناس .

وعن أبي هريرة «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتدرون ما الغيبة قالوا الله ورسوله أعلم قال ذكرك أخاك بما يكره قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقوله قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته » وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنهم ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقالوا لا نأكل حتى يطعم ولا نرحل حتى يرحل فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «اغتبتموه فقالوا : إنما حدّثنا بما فيه قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه » وفي هذا إشارة إلى وجوب حفظ عرض المؤمن فإنّ تمزيق عرض الإنسان كتمزيق أديمه ولحمه كما قال تعالى : { أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه } وقرأ { ميتاً } نافع بتشديد الياء والباقون بالسكون .

ولما كان الجواب قطعاً لا يحب أحد ذلك أشار إليه بما سببه من قوله تعالى : { فكرهتموه } أي : بسبب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرّمة عقلاً لأنّ داعي العقل بصير عالم وداعي الطبع أعمى جاهل .

تنبيه : في هذا التشبيه إشارة إلى أنّ عرض الإنسان كدمه ولحمه لأنّ الإنسان يتألم قلبه من قرض العرض كما يتألم جسمه من قطع اللحم وهذا من باب القياس الظاهر لأنّ عرض الإنسان أشرف من لحمه ودمه ، فإذا لم يحسن من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض عرضهم بالطريق الأولى ، لأنّ ذلك أشدّ ألماً وقوله تعالى لحم أخيه آكد في المنع لأنّ العدوّ يحمله الغضب على مضغ لحم العدوّ وفي قوله تعالى : { ميتاً } إشارة إلى دفع وهم وهو أن يقال : إنّ الشتم في الوجه يؤلم فيحرم وأمّا الاغتياب فلا اطلاع عليه فلا يؤلم ، فيقال لحم الأخ وهو ميت أيضاً لا يؤلم ومع هذا هو في غاية القبح كما أنه لو اطلع عليه لتألم فإنّ الميت لو أحس بأكل لحمه لآلمه وفيه معنى لطيف وهو أنّ الاغتياب أكل لحم الآدمي ميتاً ولا يحل أكله إلا للمضطرّ بقدر الحاجة والمضطرّ إذا وجد لحم الشاة الميتة ولحم الآدمي فلا يأكل لحم الآدمي فكذلك المغتاب إذا وجد لحاجته مدفعاً غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب . قال مجاهد : لما قيل لهم أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا قيل فكرهتموه أي كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله أنّ ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يحس بذلك .

قال الرازي : وفي ضمير فكرهتموه وجوه : أظهرها : أن يعود إلى الأكل . وثانيها : أن يعود إلى اللحم أي : فكرهتم اللحم . وثالثها : أن يعود إلى الميت في قوله تعالى ميتاً تقديره أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً متغيراً فكرهتموه فكأنه صفة لقوله ميتاً ويكون فيه زيادة مبالغة في التحذير يعني الميتة إن أكلت في الندرة تستطاب نادراً ولكن إذا أنتن وأروح وتغير لا يؤكل أصلاً . فكذلك ينبغي أن تكون الغيبة وذلك يحقق الكراهة ويوجب النفرة إلى حدّ لا يشتهي الإنسان أن يبيت في بيت فيه ميت فكيف يقربه بحيث يأكله ففيه إذاً كراهية شديدة . وكذلك حال الغيبة .

وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » وقال ميمون بن سنان : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي كل هذا قلت يا عبد الله ولم آكل هذا قال إنك اغتبت عبد فلان قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شرّاً قال ولكن سمعت ورضيت فكان ميمون لا يغتاب أحد ولا يدع أحداً يغتاب عنده .

وقوله تعالى : { واتقوا الله } أي : اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بطاعته معطوف على ما تقدّم من الأوامر والنواهي أي اجتنبوا واتقوا الله { إن الله } أي : الملك الأعظم { توّاب } أي : مكرّر للتوبة وهي الرجوع عن المعصية إلى ما كان قبلها من معاملة التائب وإن كرّر الذنب فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت { رحيم } يزيده على ذلك بأن يكرمه غاية الإكرام .

تنبيه : ختم سبحانه وتعالى الآيتين بذكر التوبة فقال في الأولى : { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } وقال هاهنا { إنّ الله تواب رحيم } لكن لما كان الابتداء في الآية الأولى بالنهي في قوله تعالى : { لا يسخر قوم من قوم } ذكر النفي الذي هو قريب من النهي وفي الثانية كان الابتداء بالأمر في قوله تعالى : { اجتنبوا كثيراً } فذكر الإثبات الذي هو قريب من الأمر .