فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

{ ياأيُّها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } الظنّ هنا : هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنه حتى يعلم وجهه ، لأن من الظنّ ما يجب اتباعه ، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظنّ ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم ، ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به ، فارتفع عن الشكّ والتهمة . قال الزجاج : هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا ، فأما أهل السوء والفسوق فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم . قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان : هو أن يظنّ بأخيه المسلم سوءًا ، ولا بأس به ما لم يتكلم به ، فإن تكلم بذلك الظنّ وأبداه أثم . وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : أن الظنّ القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح ، وجملة { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } : تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير ، والإثم هو ما يستحقه الظانّ من العقوبة . ومما يدل على تقييد هذا الظنّ المأمور باجتنابه بظنّ السوء قوله تعالى : { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] ، فلا يدخل في الظنّ المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين ، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه ، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم ، ولم ينكر ذلك إلاّ بعض طوائف المبتدعة كياداً للدّين وشذوذاً عن جمهور المسلمين ، وقد جاء التعبد بالظنّ في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها . ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظنّ نهاهم عن التجسس فقال : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التجسس : البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم ، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم . قرأ الجمهور { تجسسوا } بالجيم ، ومعناه ما ذكرنا . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين بالحاء . قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما من الآخر ، لأن التجسس بالجيم : البحث عما يكتم عنك ، والتحسس بالحاء : طلب الأخبار والبحث عنها . وقيل : إن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس : إذا كان يبحث عن الأمور ، وبالحاء : ما أدركه الإنسان ببعض حواسه . وقيل : إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره قاله ثعلب : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه ، والغيبة : أن تذكر الرجل بما يكرهه ، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ فقال : إن كان فيه ما تقول ، فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهته » { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه ، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه ، ذكر معناه الزجاج . وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه ، وفي هذا من التنفير عن الغيبة والتوبيخ لها والتوبيخ لفاعلها ، والتشنيع عليه ما لا يخفى ، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية ، وتستكرهه الجبلة البشرية ، فضلاً عن كونه محرّماً شرعاً { فَكَرِهْتُمُوهُ } قال الفراء : تقديره فقد كرهتموه فلا تفعلوا ، والمعنى : فكما كرهتم هذا ، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً قال الرّازي : الفاء في تقدير جواب كلام . كأنه قال : لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه فكرهتموه إذن . وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : عرض عليكم ذلك فكرهتموه { واتقوا الله } بترك ما أمركم باجتنابه { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } لمن اتقاه وتاب عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر .

/خ12