الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱجۡتَنِبُواْ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعۡضَ ٱلظَّنِّ إِثۡمٞۖ وَلَا تَجَسَّسُواْ وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٞ رَّحِيمٞ} (12)

ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن ، وأَلاَّ يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ؛ لما في ذلك وفي التجسس من التقاطُع والتَّدَابُرِ ، وحكم على بعضه أَنَّه إثم ، إذ بعضُه ليس بإثم ، والظَّنُّ المنهيُّ عنه هو أَنْ تَظُنَّ شرًّا برجل ظاهره الصلاح ، بلِ الواجب أنْ تزيل الظن وحكمه ، وتتأوَّلَ الخيرَ ؛ قال ( ع ) : وما زال أولو العزم يحترسون من سُوءِ الظنِ ، ويجتنبون ذرائعه ، قال النوويُّ : واعلم أَنَّ سوء الظن حرام ، مثل القول ، فكما يَحْرُمُ أَنْ تحدِّثَ غيرَك بمساوئ إنسان يَحْرُمُ أَنْ تحدث نفسَك بذلك ، وتسيءَ الظَّنَّ به ؛ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ؛ فَإنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " والأحاديث بمعنى ما ذكرناه كثيرة ، والمراد بذلك عَقْدُ القلب وحكمه على غيره بالسوء ، فأَمَّا الخواطر وحديث النفس ، إذا لم يستقر ، ويستمر عليه صاحبه فَمَعْفُوٌّ عنه باتفاق العلماء ؛ لأَنَّهُ لا اختيارَ له في وقوعه ، ولا طريقَ له إلى الانفِكاك عنه ، انتهى .

قال أبو عمر في «التمهيد » : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِ دَمَهُ ، وَمَالَهُ ، وعِرْضَهُ ، وأَلاَّ يُظَنَّ بِهِ إلاَّ الْخَيْرَ " انتهى . ونقل في موضع آخر بسنده : أَنَّ عمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكِرَ عنده رجل بفضل أو صلاح قال : كيف هو إذا ذُكِرَ عنده إخوانه ؟ فإنْ قالوا : إنَّه يتنقَّصهم ، وينالُ منهم ، قال عمر : ليس هو كما تقولون ، وإنْ قالوا : إنَّه يذكر منهم جميلاً وخيراً ، ويُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليهم ، قال : هو كما تقولون إن شاء اللَّه ، انتهى من «التمهيد » . وروى أبو داودَ في «سننه » عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ " انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي : لا تبحثوا عن مخبَّآت أمور الناس ، وادفعوا بالتي هي أحسن ، واجتزئوا بالظواهر الحسنة ، وقرأ الحسن وغيره : { وَلاَ تَجسَّسُوا } بالحاء المهملة ؛ قال بعض الناس : التَجَسُّسُ بالجيم في الشَّرِّ ، وبالحاء في الخير ، قال ( ع ) : وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال .

( ت ) : وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب ، لولا الإطالة لجلبناها .

{ وَلاَ يَغْتَب } معناه : لا يذكرْ أحدُكم من أخيه شيئاً هو فيه ، ويكره سماعَه ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إذَا ذَكَرْتَ مَا في أَخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإذَا ذَكَرْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّه " ، وفي حديث آخر : " الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَكْرَهُ ، قِيلَ : وَإنْ كَان حَقًّا ؟ قَالَ : إذَا قُلْتَ بَاطِلاً فَذَلِكَ هُوَ الْبُهْتَانُ " وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا ، قِيلَ : وَكَيْفَ ؟ ! قال : لأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَالَّذِي يَغْتَابُ لاَ يُتَابُ عَلَيْهِ حتى يَسْتَحِلَّ " ، قال ( ع ) : وقد يموت من اغْتِيبَ ، أو يأبى ، وروى أبو داودَ في «سننه » عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هؤلاء يَا جِبْرِيلُ ؟ ! قَالَ : هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ " انتهى .

والغِيبَةُ مشتقة من غَابَ يَغِيبُ وهي القول في الغائب ، واسْتُعْمِلَتْ في المكروه ، ولم يُبَحْ في هذا المعنى إلاَّ ما تدعو الضرورةُ إليه ، من تجريح الشهود ، وفي التعريف بمن استنصح في الخطاب ونحوهم : لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ " وما يقال في الفَسَقَةِ أيضاً ، وفي وُلاَةِ الجَوْرِ ، ويُقْصَدُ به : التحذيرُ منهم ؛ ومنه قوله عليه السلام : " أَعَنِ الْفَاجِرِ تَرْعَوُنَ ؟ ! اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ ، مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ إذَا لَمْ تَذْكُرُوهُ " . ( ت ) : وهذا الحديث خَرَّجه أيضاً أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بَهْزٍ ، عن أبيه ، عن جَدِّه ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَتَرْعَوُنَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ ؛ يَحْذَرْهُ النَّاسُ " ولم يذكر في سنده مَطْعَناً ، انتهى . ومنه قوله عليه السلام : " بِيسَ ابنُ الْعَشِيرَةِ " . ثُمَّ مَثَّلَ تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي : فكذلك فاكرهوا الغِيبَةَ ، قال أبو حيان : { فَكَرِهْتُمُوهُ } قيل : خبر بمعنى الأَمر ، أي : فاكرهوه ، وقيل على بابه ، فقال الفَرَّاءُ : فقد كرهتموه ، فلا تفعلوه ، انتهى .

وقد روى البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ " وفي رواية مسلم : " مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ ، أوْ قَالَ : عَدُوُّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم : " أَيُّ رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ : كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا " انتهى . وباقي الآية بَيِّنٌ .