المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَمَا لَهُمۡ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمۡ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَمَا كَانُوٓاْ أَوۡلِيَآءَهُۥٓۚ إِنۡ أَوۡلِيَآؤُهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ} (34)

وقوله عز وجل : { وما لهم ألا يعذبهم الله } توعد بعذاب الدنيا ، فتقديره وما يعلمهم أو يدريهم ونحو هذا من الأفعال التي توجب أن تكون «أن » في موضع نصب{[5317]} ، وقال الطبري : تقديره وما يمنعهم من أن يعذبوا ، والظاهر في قوله { وما } أنها استفهام على جهة التقرير والتوبيخ والسؤال ، وهذا أفصح في القول وأقطع لهم في الحجة ، ويصح أن تكون { ما } نافية ويكون القول إخباراً ، أي وليس لهم ألا يعذبوا وهم يصدون ، وقوله { وهم يصدون } على التأويلين جملة في موضع الحال ، و { يصدون } في هذا الموضع معناه يمنعون غيرهم ، فهو متعدٍّ كما قال الشاعر : [ الوافر ]

صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ***{[5318]}

وقد تجيء صد عير متعدٍّ كما أنشد أبو علي : [ البسيط ]

صَّدت ُخَلْيَدُة عنّا ما تكلّمُنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5319]}

والضمير في قوله { أولياؤه } عائد على الله عز وجل من قوله { يعذبهم الله } ، أو على المسجد الحرام ، كل ذلك جيد ، روي الأخير عن الحسن ، والضمير الآخر تابع للأول وقوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } معناه لا يعلمون أنهم ليسوا بأوليائه بل يظنون أنهم أولياؤه ، وقوله { أكثرهم } ونحن نجد كلهم بهذه الصفة ، لفظ خارج إما على أن تقول إنه لفظ خصوص أريد به العموم وهذا كثير في كلام العرب ، ومنه حكى سيبويه من قولهم : قل من يقول ذلك ، وهم يريدون لا يقوله أحد .

وإما أن يقول : إنه أراد بقوله { أكثرهم } أن يعلم ويشعر أن بينهم وفي خلالهم قوماً قد جنحوا إلى الإيمان ووقع لهم علم وإن كان ظاهرهم الكفر فاستثارهم من الجميع بقوله { أكثرهم } وكذلك كانت حال مكة وأهلها ، فقد كان فيهم العباس وأم الفضل{[5320]} وغيرهما ، وحكى الطبري عن عكرمة قال الحسن بن أبي الحسن : إن قوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } ، ناسخ لقوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، لأنه خبر لا يدخله نسخ .


[5317]:- قال الأخفش: إن [أن] زائدة، قال النحاس: لو كان كما قال لرفع [يعذبهم] فيكون الفعل في موضع الحال، كقوله تعالى: {وما لنا لا نؤمن بالله}. ويجوز أن تكون [أن] في موضع جر على تقدير (في) وتعلق بما تعلق به [لهم] والمعنى: أي شيء كائن أو مستقر لهم في ألا يعذبهم الله؟ أي: لا حظ لهم في انتفاء العذاب، فهم معذبون ولا بد.
[5318]:-هذا صدر بيت من معلقة عمرو بن كلثوم المشهورة التي بدأها بقوله: ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا وقد روي (صبنت) بدلا من (صددت)- والصبن هو الصرف، ولكن الرواية المشهورة (صددت) والبيت بتمامه: صددت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا والمعنى: صرفت الكأس عني يا أم عمرو، وكان مجرى الكأس على اليمين، فأجريتها على اليسار، أي أنك تعمدت أن تمنعي عني الكأس.
[5319]:- الواضح أن (صدّ) هنا بمعنى: أعرض، فخليدة قد أعرضت عنه وامتنعت عن تكليمه، ولم نقف على قائل البيت ولا على بقيته.
[5320]:-أم الفضل هي لُبابة بنت الحارث الهلالية امرأة العباس بن عبد المطلب، وهي لبابة الكبرى، ولها أربع أخوات أخرج فيهن الزبير بن بكار عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الأخوات الأربع مؤمنات: أم الفضل، وميمونة، وأسماء، وسلمى). فأما ميمونة فهي أم المؤمنين، وأما أسماء وسلمى فأختاهما من أبيهما. وكان يقال لوالدة أم الفضل: أكرم الناس أصهارا، ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، والعباس تزوج أختها شقيقتها لبابة، وحمزة تزوج أختها سلمى، وجعفر بن أبي طالب شقيقتها أسماء ثم تزوجها بعده أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين، وقد ماتت أم الفضل في خلافة عثمان قبل زوجها العباس. (الإصابة).