معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

قوله تعالى : { ومن الناس } . يعني المشركين .

قوله تعالى : { من يتخذ من دون الله أنداداً } . أي أصناماً يعبدونها .

قوله تعالى : { يحبونهم كحب الله } . أي يحبون آلهتهم كحب المؤمنين الله ، وقال الزجاج : يحبون الأصنام كما يحبون الله لأنهم أشركوها مع الله فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة .

قوله تعالى : { والذين آمنوا أشد حباً لله } . أي أثبت وأدوم على حبه من المشركين لأنهم لا يختارون على الله ما سواه . والمشركون إذا اتخذوا صنماً ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني . قال قتادة : إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال : ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء والضراء والشدة والرخاء .

قال سعيد بن جبير : إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ، لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار : إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) .

وقيل إنما قال : ( والذين آمنوا أشد حباً لله ) لأن الله تعالى أحبهم أولاً ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) .

قوله تعالى : { ولو يرى الذين ظلموا } . قرأ نافع وابن عامر ويعقوب ولو ترى بالتاء ، وقرأ الآخرون بالياء ، وجواب لو هاهنا محذوف ، ومثله كثير في القرآن كقوله تعالى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به ) الآية يعني لكان هذا القرآن ، فمن قرأ بالتاء معناه ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم من شدة العذاب لرأيت أمراً عظيماً ، وقيل : معناه قل يا محمد : أيها الظالم لو ترى الذين ظلموا أي أشركوا في شدة العقاب لرأيت أمراً فظيعاً ، ومن قرأ بالياء معناه ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم عند رؤية العذاب أو لو رأوا شدة عذاب الله وعقوبته حين يرون العذاب لعرفوا مضرة الكفر وأن ما اتخذوا من الأصنام لا ينفعهم .

قوله تعالى : { إذ يرون } . قرأ ابن عامر بضم الياء والباقون بفتحها .

قوله تعالى : { العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العقاب } . أي بأن القوة لله جميعاً ، معناه لرأوا معناه وأيقنوا أن القوة لله جميعاً . وقرا أبو جعفر ويعقوب : إن القوة وإن الله بكسر الألف على الاستئناف والكلام تام عند قوله إذ يرون العذاب مع إضمار الجواب .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

عطف على إن في خلق السموات والأرض { وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [ البقرة : 164 ] الخ لأن تلك الجملة تضمنت أن قوماً يعقلون استدلوا بخلق السموات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحدوه ، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة ، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفاً بقوله تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار } [ البقرة : 161 ] الآيات .

وقوله : { ومن الناس } خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى : { ومن الناس من يقول أمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 8 ] وعطفُه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديمُ الخبر وكونُ الخبر { من الناس } مؤذن بأنه تعجبٌ من شأنهم .

و { مَنْ } في قوله : { من يتخذ } ما صدْقُها فريق لا فرد بدليل عود الضمير في قوله : { يحبونهم كحب الله } .

والمراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة ، وقد مضى الكلام على النِّد بكسر النون عند قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22 ] .

وقوله : { من دون الله } معناه مع الله لأن كلمة دون تؤذن بالحيلولة لأنها بمعنى وراء فإذا قالوا اتخذه دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا اتخذه من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن الله في أوقات الشغل بعبادة ذلك الشريك .

وقوله : { من دون الله } خال من ضمير { يتخذ } ، وقوله : { يحبونهم } بدل من { يتخذ } بدل اشتمال ، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة ، ويجوز كونه صفة لمَن ، وجوِّز أن يكون صفة لأنداداً لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم ، والأظهر أن يكون حالاً من ( مَن ) تفظيعاً لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها .

والمراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن ، الأصنام لا الرؤساء كما قيل ، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله : { يحبونهم } لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل ، والمحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو مَيل النفس إلى الحَسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول نفع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافاً لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخُلُق ( بضم الخاء ) الحسن وإلى الفعل الحسن والكمال ، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله .

فالتحقيق أن الحب يتعلق بذِكر المرء وحصول النفعِ منه وحُسْن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته ، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولِما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا ، ونحب أجدادنا ، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام ، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين ، ولله در أبي مدين في هذا المعنى :

كم من محب قد أحب وما رأى*** وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى

وبضد ذلك كله تكون الكراهية .

ومن الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم عرفي لها قال الجَعْدي :

لو كان حبك صادقاً لأطعته*** إن المحب لمن يحب مطيع

أو مجاز بالحذف ، والتقدير : يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله ، إما لأنها من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأي بعض المتكلمين ، وإما لأنها طلب الملائم . واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر ، وعلى هذا التفصيل بين إطلاقي المحبة هنا يكون التشبيه راجعاً إلى التسوية في القوة .

ومنهم من جعل محبة الله تعالى مجازاً وجعلها في قوله : { يحبونهم } أيضاً مجازاً وعلى ذلك درج في « الكشاف » وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها . وقد علمت أنه غير متعين . وقوله : { كحب الله } مفيد لمساواة الحبين ؛ لأن أصل التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول . فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب لله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب ، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة ، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه ، ويسميهم شركاء أو أبناء لله تعالى ، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه ، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى قال تعالى : { نسوا فأنساهم أنفسهم } [ الحشر : 19 ] ، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب ، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء ، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يحب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله ، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين ، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام .

واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام : { بَأَبَتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار .

وقوله : { والذين أمنوا أشد حباً لله } أي أشد حبّاً لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم ، على ما بلغوا من التصلب فيها ، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد ، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لمَّا كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان ، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونِه أهلاً للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس .

والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيراً ما كانوا يُعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أمَّلوه . فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا ، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها ، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم تزلزلها ، وهذا مأخوذ من كلام « الكشاف » ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره ، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح « الكشاف » .

روي أن امرأَ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حُجْراً ملكَهم مر على ذي الخُلَصة الصَّنم الذي كان بتَبَالَة بين مكة واليَمنِ فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصَّنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات{[170]} فكَسَر تلك القِداح ورمى بها وجه الصَّنم وشتمه وأنشد :

لو كنتَ ياذَا الخلص المَوْتُورا *** مِثلي وكانَ شيخك المقبورا

* لم تَنْه عن قتل العُداة زورَا *

ثم قصد بني أسد فظفِر بهم .

ورُوي أن رجلاً من بني مَلْكَان جاء إلى سَعْد الصَّنم بساحل جُدَّةَ وكان معه إبل فنفرت إبله لما رأت الصَّنم{[171]} فغضب المَلْكاني على الصَّنم ورماه بحجَر وقال :

أتينَا إلى سَعْد ليَجْمَع شملنـا *** فشتَّتنَا سَعْد فما نَحْنُ من سَعْــد

وهلْ سَعْدٌ إلاَّ صَخْرَةٌ بتَنَوفَة *** من الأرض لا تدعو لِغيٍّ ولا رُشد

وإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة { أشد } قال التفتزاني : آثر { أشدُّ حباً } على أحَبُّ لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول : هو أحب إلي ، وفي القرآن : { قل إن كان أباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله } [ التوبة : 24 ] الخ . يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلاً بمواقع نفياً للبس فقالوا : أحب وهو محب وأشد حباً وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضاً .

عطف على قوله : { ومن الناس من يتخذ } وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحاً لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله : { ومن الناس } مؤذناً بالتعجيب من حالهم كما قدمنا ، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أنداداً وأحبوها كحبه ، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا .

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب { ولو ترى } بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب ، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء ، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ( فالذين ظلموا ) مفعول ( ترى ) على المعنيين ، و ( إذ ) ظرف زمان ، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات ، ولأن ذلك مورد المعنى ، إلاّ أن وقت الرؤيتين مختلف ، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة ، أي لو ترى الآن حالهم ، وقرأه الجمهور { يرى الذين ظلموا بالتحتية فيكون الذين ظلموا } فاعل { يرى } والمعنى أيضاً لو يرون الآن ، وحذف مفعول { يرى } لدلالة المقام ، تقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون ( إذ ) اسماً غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من { الذين ظلموا } .

و { الذين ظلموا } هم الذين اتخذوا من دون الله أنداداً فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملاً لهؤلاء المشركين وغيرهم ، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلماً لأنه اعتداء على عدة حقوق فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده ، واعتدوا على من جعلوهم أنداداً لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى ، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فقد ورد في « الصحيح » عن ابن عباس أنهم كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها ، ومثل ( اللات ) يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللات بتشديد التاء ، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سبباً لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ] وقال : { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [ سبأ : 40 ] الآية وقال : { ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] الآية ، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال ، ولذلك حذف مفعول { ظلموا } لقصد التعميم ، ولك أن تجعل { ظلموا } بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وعليه فالفعل منزَّل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب .

وجملة : { والذين أمنوا أشد حباً لله } معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها وهذا كقول عُمر بن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم " لأنت أَحب إليّ من نفسي التي بين جنبيّ " .

وتركيب { لو ترى } وما أشبهه نحو لو رأيتَ من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن .

وجواب { لو } محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ونظيره { ولو ترى إذ الظالمون في غمَرَات الموت } [ الأنعام : 93 ] { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] { ولو أن قرءاناً سيرت به الجبال } [ الرعد : 31 ] ، قال المرزوقي عند قول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :

وقد ساءني ما جرَّتت الحرب بيننا *** بنِي عَمِّنا لو كان أمراً مُدَانِيا

« حَذْفُ الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده لئن قمتُ إليك ثم سكتَ تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضربٍ من العذاب » ، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر لرأيتَ أمراًعظيماً وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمراً عظيماً .

وقوله : { أن القوة } قرأَه الجمهور بفتح همزة أَنَّ وهو بدل اشتمال من { العذاب } أو من { الذين ظلموا } فإن ذلك العذاب من أحوالهم ، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل ، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعاً والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعاً .

{ وجميعاً } استعمل في الكثرة والشدة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شراً :

قليلُ التشكي للمُلِمِّ يصيبُه *** كثيرُ الهوى شتَّى النَّوى والمسالك

أراد شديد الغرام .

وقرأه أبو جعفر ويعقوب { إِن القوة } بكسر الهمزة على الاستئناف البياني كأن سائلاً قال : ماذا أرى وما هذا التهويل ؟ فقيل : إن القوة ولا يصح كونها حينئذٍ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار :

*إن ذاك النجاح في التبْكير *

لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه .

وقرأ ابن عامر وحده { إذ يرون العذاب } بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله : { كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات } [ البقرة : 167 ] .

وانتصب ( جميعاً ) على التوكيد لِقوله ( القوة ) أي جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله { الحمد لله } [ الفاتحة : 2 ] .

وقد جاء ( لو ) في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن لو للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطاً لها يُصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعيناً للمستقبل فأوَّلَه الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب « المفتاح » ، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حرْف بمعنى إِنْ لمجرد التعليق لا للامتناع ، وذهب ابن مالك في « التسهيل » و« الخلاصة » إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية بالنسبة لوقوع الماضي وإلاّ فهو وارد في القرآن وفصيح العربية .

والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده ( لو ) متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضاً وغير مقصود حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذراً ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم ، وأن كون الفعل بعدها ماضياً أو مضارعاً ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة بالاختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها ، إذ كثيراً ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة :

ولو تلتقِي أصداؤنا بعد موتنـــا *** ومِنْ بين رَمْسينا من الأرض سَبسبُ

لظل صدَى صوتي وإن كنتُ رِمَّةً *** لصوت صدى ليلى يهشُّ ويَطْــرَبُ

فإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية .


[170]:- ذو الخلصة بضم الحاء وفتح اللام صنم كان لختعم وزبيد ودوس وهوازن، وهو صخرة قد نقشت فيها صورة الخلصة والخلصة زهرة معروفة، وكان عندي ذي الخلصة أزلام ثلاثة يستقسمون بها وهي الناهي والآمر والمرتضي. وذو الخلصة هدمه جرير بن عبد الله البجلي بإذن من النبيء صلى الله عليه وسلم.-
[171]:- كان هذا الصنم حجرا طويلا ضخما.-
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ومن الناس}: مشركي العرب.

{من يتخذ من دون الله أندادا}: شركاء، وهي الآلهة.

{يحبونهم كحب الله}: يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم.

{والذين آمنوا أشد حبا لله}: منهم لآلهتهم.

ثم أخبر عنهم، فقال: {ولو يرى}: محمد يوم القيامة.

{الذين ظلموا}: مشركي العرب ستراهم يا محمد في الآخرة.

{إذ يرون العذاب} فيعلمون حينئذ {أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بذلك: أن من الناس من يتخذ من دون الله أندادا له، وقد بينا فيما مضى أن الند:العدل، وأن الذين اتخذوا هذه الأنداد من دون الله يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله، ثم أخبرهم أن المؤمنين أشد حبّا لله من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.

واختلف أهل التأويل في الأنداد التي كان القوم اتخذوها وما هي؟ فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.

وقال آخرون: بل الأنداد في هذا الموضع إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.

فإن قال قائل: وكيف قيل كحبّ الله، وهل يحبّ الله الأنداد؟ وهل كان متخذو الأنداد يحبون الله فيقال يحبونهم كحبّ الله؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما نظير ذلك قول القائل: بعت غلامي كبيع غلامك، بمعنى: بعته كما بيع غلامك وكبيعك غلامك، واستوفيت حقي منه استيفاء حقك، بمعنى: استيفائك حقك. فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطب اكتفاء بكنايته في «الغلام» و«الحق».

فمعنى الكلام إذا: ومن الناس من يتخذ أيها المؤمنون من دون الله أندادا يحبونهم كحبّ الله.

"وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ"

اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه عامة أهل المدينة والشام: "وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا "بالتاء إذْ يَروْنَ العَذَابِ بالياء "أن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وأن اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ "بفتح «أن» و«أن» كلتيهما، بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين كفروا وظلموا أنفسهم حين يرون عذاب الله ويعاينونه، أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب. ثم في نصب «أن» و«أن» في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذْ يرون عذاب الله لأقرّوا. ومعنى ترى: تبصر أن القوّة لله جميعا، "وأن الله شديد العذاب". ويكون الجواب حينئذ إذ فتحت «أن» على هذا الوجه متروكا قد اكتفي بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح (أن) على قراءة من قرأ: "وَلَوْ تَرَى" بالتاء.

والوجه الآخر في الفتح، أن يكون معناه: ولو ترى يا محمد إذ يرى الذين ظلموا عذاب الله، لأن القوّة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف اللام فتفتح بذلك المعنى لدلالة الكلام عليها.

وقرأ ذلك آخرون من سلف القرّاء: "وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ إن القُوةَ لِلّهِ جَمِيعا وَإنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ" بمعنى: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا حين يعاينوا عذاب الله لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه بعد تمام الخبر الأول، فقال: "إن القوة لله جميعا" في الدنيا والاَخرة دون من سواه من الأنداد والاَلهة، وإن الله شديد العذاب لمن أشرك به وأدّعى معه شركاء وجعل له ندّا.

وقد يحتمل وجها آخر في قراءة من كسر «إن» في «ترى» بالتاء، وهو أن يكون معناه: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذاب، يقولون: إن القوّة لله جميعا، وإن الله شديد العذاب. ثم تحذف القول وتكتفي منه بالمقول.

وقرأ ذلك آخرون: "وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا بالياء إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أنّ القوّة لله جميعا وأنّ الله شَدِيدُ العَذَابِ" بفتح الألف من أنّ وأن، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذاب الله الذي أعدّ لهم في جهنم لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب...

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن تأويل قراءة من قرأ: "وَلَوْ يَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوّةَ لِلّهِ جَمِيعا وأنّ اللّهَ شَدِيدُ العَذَابِ" بالياء في يرى وفتح الألفين في «أن» و«أن»: ولو يعلمون، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم علم، فإذا قال: «ولو ترى»، فإنما يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولو كسر «إن» على الابتداء إذا قال: «ولو يرى» جاز، لأن «لو يرى»: لو يعلم، وقد يكون «لو يعلم» في معنى لا يحتاج معها إلى شيء، تقول للرجل: أما والله لو يعلم ولو تعلم.

قال: وقال بعضهم: «ولو ترى» وفتح «أنّ» على «ترى» وليس بذلك، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناس كما قال تعالى ذكره: "أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ" ليخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: "ألَمْ تَعْلَمْ أنّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ".

والصواب من القراءة عندنا في ذلك: "وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا" بالتاء من «ترى» إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أن القُوَةَ للّهِ جَميعا وأنّ اللّه شَدِيدُ العَذَابِ بمعنى لرأيت أن القوة للّه جميعا وأن الله شديد العذاب، فيكون قوله «لرأيت» الثانية محذوفة مستغنى بدلالة قوله: «ولو ترى الذين ظلموا» عن ذكره، وإن كان جوابا ل «لو» ويكون الكلام وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم معنيا به غيره، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالما بأن القوّة لله جميعا وأن الله شديد العذاب، ويكون ذلك نظير قوله: "ألَمْ تَعْلَمْ أن اللّهَ لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ" وقد بيناه في موضعه.

وإنما اخترنا ذلك على قراءة الياء لأن القوم إذا رأوا العذاب قد أيقنوا أن القوّة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب، فلا وجه أن يقال: لو يرون أن القوّة لله جميعا حينئذ، لأنه إنما يقال: «لو رأيت» لمن لم ير، فأما من قد رآه فلا معنى لأن يقال له: «لو رأيت».

"إذْ يَرَوْنَ العَذَابَ" إذ يعاينون العذاب.

وإنما عنى تعالى ذكره بقوله: "وَلَوْ تَرَى الّذِينَ ظَلَمُوا": ولو ترى يا محمد الذين ظلموا أنفسهم فاتخذوا من دوني أندادا يحبونهم كحبكم إياي، حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم، لعلمتم أن القوّة كلها لي دون الأنداد والاَلهة، وأن الأنداد والاَلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا، ولا تدفع عنهم عذابا أحللته بهم، وأيقنتم أني شديدٌ عذابي لمن كفر بي وادّعى معي إلها غيري.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا} أي أشباها في التسمية أو أعدالا في العبادة، أو شركاء في الحقوق بقوله: (هذا لله بزعمهم) الآية [الأنعام: 136]؛ يسفههم بما عبدوا ما قد صنعوه بالصناعة أو النحت، وزينوا بأنواع الزينة، وأعرضوا بذلك عن عبادة من عرفوه بشهادة جميع العالم بهم، وعلموا أنه لا يملك شيئا مما عبدوه ضرا ولا نفعا، بل لو كان يجوز العبادة لغير الله لكان أولئك الذين اتخذوا أولى من المتخذين...

{والذين آمنوا أشد حبا لله} منهم لآلهتهم...

ثم المحبة، محبة الشهوة والميل إليها، وهو في الخلق، لا يحتمل في الله، ومحبته الطاعة وإيثار الأمر والإعظام...

{ولو يرى الذين ظلموا} قرئ بالياء والتاء جميعا؛ ومن قرأ بالتاء جعل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم...

ومن قرآ بالياء: يقول: {ولو يرى الذين ظلموا} في الدنيا إذا رأوا العذاب يعلمون {أن القوة لله جميعا}...

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} قال ابن عبّاس: أثبت وأدوم وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنماً فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك الوثن وأقبلوا على عبادة الأحسن...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة، فَشَغَلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هَوَتَهْ أنفسهم، فرضوا بمعمولٍ لهم أن يعبدوه، ومنحوت -من دونه- أن يحبوه.

قوله جلّ ذكره: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ}.

ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام، ولكن من أحبَّ حبيباً استكثر ذكره، بل استحسن كل شيء منه.

ويقال: وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن هذه محبة الجنس للجنس، وقد يميل الجنس إلى الجنس، وتلك محبةُ من ليس بجنسٍ لهم، فذلك أعزُّ وأحق.

ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود، وأمَّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حَالَ بينهم وبين شهوده رداء الكبرياء على وجهه.

ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم، فهي أتم، قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.

ويقال محبة المؤمنين أتمُّ وأشدُّ لأنها على موافقة الأمر، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع، ويقال: إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم، واتسعت ذات يدهم، اتخذوا أصناماً أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك في حال فقرهم؛ فكانوا يتخذون من الفضة -عند غناهم- أصناماً ويهجرون ما كان من الحديد... وعلى هذا القياس! وأمَّا المؤمنون فأشَدُّ حباً لله لأنهم عبدوا إلهاً واحداً في السّراء والضراء.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{أَندَاداً}: أمثالاً من الأصنام. وقيل من الرؤساء الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم. واستدلّ بقوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا}. ومعنى: {يُحِبُّونَهُمْ}: يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب {كَحُبّ الله}: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله تعالى، على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوُّون بينه وبينهم في محبتهم لأنهم كانوا يقرّون بالله ويتقرّبون إليه. فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين {أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره؛ بخلاف المشركين فإنهم يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون له ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره، أو يأكلونه كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة. {الذين ظَلَمُواْ}: إشارة إلى متخذي الأنداد أي لو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أنّ القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم، فحذف الجواب كما في قوله: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام: 27]، وقولهم: لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه. وقرئ: «ولو ترى» بالتاء على خطاب الرسول أو كل مخاطب، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً. وقرئ: «إذ يرون» على البناء للمفعول. "وإذ "في المستقبل كقوله: {وَنَادَى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44].

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

ولفظ الناس عام، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان...

فالأنداد، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي، وإن خالف أمر الله ونهيه. قال تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}

والأنداد، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله...

{والذين ظلموا}، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاماً، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا فهذا ند في المحبة، لا في الخلق والربوبية. فإن أحدا من أهل الأرض لم يثبت هذا الند. بخلاف ند المحبة. فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا له أندادًا، أي: أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ندَّ له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال:"أن تجعل لله ندًا وهو خلَقَك".

{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} ولحبهم لله وتمام معرفتهم به، وتوقيرهم وتوحيدهم له، لا يشركون به شيئًا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجؤون في جميع أمورهم إليه.

ثم تَوَعَّدَ تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك فقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}. قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعًا، أي: إن الحكم له وحده لا شريك له، وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} كما قال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25، 26] يقول: لو علموا ما يعاينونه هنالك، وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلال...

تفسير ابن عرفة 803 هـ :

قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله...}، إن قلت: (هم) إنما كانوا يعبدونهم والعبادة أخص من المحبة لأن الواحد منا يحب ولده وأباه وأمه ولا (يعبدهم) فهلا قيل: يعبدونهم؟ قلت: أجاب ابن عرفة بوجهين: -الأول: أنه ذمهم على الوصف الأعم وهو المحبة ليفيد الذم على الأخص وهو العبادة من باب أحرى.- الجواب الثاني: أنه عدل عن لفظ العبادة استعظاما له واستحقارا للأصنام أن تنسب إليهم العبادة...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذه الآيات مبينة لحال الذين لا يعقلون تلك الآيات التي أقامتها الآية السابقة على توحيد الله تعالى ورحمته، ولذلك جعلوا له أندادا يلتمسون منهم الخير والرحمة، ويدفعون ببركتهم البلاء والنقمة، ويأخذون عنهم الدين والشرعة. قال المفسرون: إن الند هو المماثل، وزاد بعض اللغويين فيه قيدا فقال: إنه المماثل الذي يعارض مثله ويقاومه. ويفهم من هذا أن متخذي الأنداد يزعمون أنهم مماثلون لله تعالى في قدرته وعلمه وسلطانه يعارضونه في الخلق ويقاومونه في التدبير، وهذا غير صحيح لأن القرآن قص علينا خبر متخذي الأنداد في آيات كثيرة صريحة في أنهم لا يعتقدون شيئا من هذا الذي يفهم أو يتوهم من عبارة المفسرين، بل يعتقدون غالبا أن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وأن الأنداد وسطا بينه وبين عباده يقربونهم إليه ويشفعون لهم عنده، ويقضون حاجاتهم بخوارق العادات أو يقضيها هو لأجلهم. ويحتجون لهذه العقيدة بأن المذنبين المقصرين لا يستطيعون الوصول إلى الله تعالى بأنفسهم، فلا بد لهم من واسطة بينهم وبينه تعالى، كما هو المعهود من الرعايا الضعفاء، مع الملوك والأمراء. والوثنيون يقيسون الله تعالى على من يعظمونه من الرؤساء وعظماء الخلق، ولاسيما المستبدين منهم، الذين استعبدوا الناس استبعادا بل تعبدوهم فعبدوهم. فالآيات الناطقة بأنهم إذا سئلوا: من خلق كذا وكذا؟ يقولون: الله ـ كثيرة وقال فيهم مع ذلك {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس: 18) وقال أيضا {والذين اتخذوا من دونه أولياء: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) أي يقولون ما نعبدهم الخ.

والأنداد عند جمهور المفسرين أعم من الأصنام والأوثان، فيشمل الرؤساء الذين خضع لهم بعض الناس خضوعا دينيا، ويدل عليه الآيات الآتية {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} الخ فالمراد إذا من الند من يطلب منه ما لا يطلب إلا من الله عز وجل، أو يؤخذ عنه ما لا يؤخذ إلا عن الله تعالى، وبيان الأول على ما قررناه مرارا أن الأسباب مسببات لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب المسببات من أسبابها ليس من اتخاذ الأنداد في شيء، وإن هناك أمورا تخفى علينا أسبابها، ويعمى علينا طريق طلابها، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مسبب الأسباب لعله بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب حتى لا يبقى في الإمكان شيء مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.

[ف] لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم أخذا بظاهر قوله {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} (الواقعة: 64) وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذور والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار، وإفاضة الأنهار، ودفع الحوائج، فإن استطاعوا شيئا من ذلك فعليهم أن يطلبوا بعملهم لا بألسنتهم وقلوبهم، مع شكر الله تعالى على هدايتهم إليه، وإقدارهم عليه.

كذلك يحظر الدين عليهم أن ينفروا إلى الحرب والمدافعة عن الملة والبلاد عزلا، أو حاملي سلاح دون سلاح العدو المعتدي عليهم اتكالا على الله تعالى واعتمادا على أن النصر بيده، بل يأمرهم بأن يعدوا للأعداء ما استطاعوا من قوة ويتكلوا بعد ذلك في الهجوم والإقدام، على عناية الله تعالى بتثبيت القلوب والأقدام، وغير ذلك من ضروب التوفيق والإلهام، فمن قصر في اتخاذ الأسباب اعتمادا على الله فهو جاهل بالله. ومن التجأ إلى ما ليس بسبب من دون الله فهو مشرك بالله. وهذا الذي يلجأ إليه من إنسان مكرم ـ كالأنبياء والصالحين، أو ملك من الملائكة المقربين، أو ما دون ذلك من مظاهر الخليقة، أو صنم أو تمثال جعل تذكار لشيء من هذهـ يسمى ندا لله وشريكا له ووليا من دونه، وقد نطق القرآن بجميع هذه الأسماء التي سماها المشركون ولم ينزل الله بها من سلطان.

قال الأستاذ الإمام: قسم المفسرون الأنداد إلى قسمين: قسم يعمل بالاستقلال أي يقضي حاجة من يلجأ إليه بنفسه، وقسم يشفع عند الله تعالى ويتوسط لصاحب الحاجة فتقضى، وإنما كان الشفيع ندا لأنه يستنزل من يشفع عنده عن رأيه ويحول من إرادته، وتحويل الإرادة لا بد أن يكون مسبوقا بتغيير العلم بالمصلحة والحكمة إذ الإرادة تابعة دائما، وهذا هو المعروف من معنى الشفاعة عند السلاطين والحكام وهو محال على الله تعالى. وأقل تغيير في علم المشفوع عنده هو أن يعلم أن الشفيع يهمه أمر من يشفع له ويتمنى لو تقضى حاجته...

ولا يرغب عن الأسباب إلى التعلق بالأنداد والشفعاء إلا من كان قليل الثقة بالسبب أو طالبا ما هو أعجل منه، كالمريض يعالجه الأطباء فيتراءى له أو لأحد أقاربه أن يلجأ إلى من يعتقد تأثيرهم في السلطة الغيبية الخارجة عن الأسباب طلبا للتعجيل بالشفاء، ومثله سائر أصحاب الحاجات الذين يلجؤون إلى من اتخذوهم أولياء ليكفوهم عناء اتخاذ الأسباب (وذكر منه طلاب خدمة الحكومة).

وأما القسم الآخر من الأنداد فهو من يتبع في الدين من غير أن يكون مبينا للناس ما جاء عن الله تعالى ورسوله، فيعمل بقوله وإن لم يعرف دليله ويتخذ رأيه دينا واجب الإتباع وإن ظهر أنه مخالف لما جاء عن الله ورسوله، اعتمادا على أنه أعلم بالوحي ممن قلدوه دينهم وأوسع منهم فهما فيما نزل الله، وفي هؤلاء نزل قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} (التوبة: 31) كما ورد في التفسير المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن مباحث اللفظ في الآية أن الرؤية فيها علمية على قول الجلال. وقال الأستاذ الإمام: إنها بصرية وإنما سلطت على المعقول لإنزاله منزلة المحسوس، كأنه قال: لو يتمثل لهم الأمر ويتشخص لرأوا أمرا هائلا عظميا لا يتصور نظيره وهو مجاز لا لطف منه ولا إبداع،

ويجوز أن يراد بالعذاب مظاهره فتكون مسلطة على محسوس...

وبقي صنف آخر يشبه أن يكون من الأنداد وهم العامة، والذين اتخذوهم أندادا هم علماء الدين فإنهم يحلون لمراضاتهم ويحرمون ويخالفون النصوص الصريحة بضروب سخيفة من التأويل لموافقة أهوائهم، فإن لم يفتوهم بخلاف النص التماسا لخيرهم أو هربا من سخطهم كتموا حكم الله من أجل ذلك؟ فترى أحدهم إذا سئل: أهذا حق أم باطل أم حرام؟ يغض من صوته بالجواب، ولا يجهر بالقول مداراة للعوام، إذا كان الجواب على غير ما هم عليه، ولاسيما إذا كان هؤلاء العامة من الأغنياء وأصحاب السلطة. ونقول: مداراة للعوام. حكاية لقومهم إذ يسمون النفاق والمحاباة في الدين مداراة محمودة، وكذلك كان الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ممن قبلهم يسمون كتمانهم بأسماء محمودة، ولكن الله تعالى لعنهم على ذلك وسجل لهم الكفر والفسوق والعصيان. فهل يختلف حكمه فيرضى لهؤلاء بأن يؤثروا العامة على ربهم ويجعلونهم أندادا له يحبونهم كحبه أو أشد؟.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فالتحقيق أن الحب يتعلق بذِكر المرء وحصول النفعِ منه وحُسْن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولِما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا، ونحب أجدادنا، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين، وبضد ذلك كله تكون الكراهية.

واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه السلام: {بَأَبَتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم: 42] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

فيه إشارتان بيانيتان:

الإشارة الأولى- التعبير {ومن الناس} فمن للبعضية، أي بعض الناس، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا، أم كانوا عددا كثيرا، فهم مهينون في تفكيرهم، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم، وما يحيط بهم، فضلوا ضلالا بعيدا، والتعبير عنهم بذلك {ومن الناس} إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس، فليس لهم وصف علم ولا إيمان، ولا شيء من المكارم التي تعلي الإنسان وتسير به في مدارج الرقي، كما تقول عن رجل محتقرا: هذا الآدمي، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي.

[و] الإشارة الثانية- أن الله تعالى قال: {يتخذ من دون الله أندادا}... [وذلك بأن] الأنداد- ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا. وأنهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا...