اعلم : أنه ، سبحانه وتعالى ، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة ، أردفه بتقبيح ما يضاده ؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يؤكِّد حسن الشَّيء .
876 - . . . *** وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ
وقالوا أيضاً : النِّعمة مجهولةٌ ، فإذا فقدت عرفت ، والنَّاس لا يعرفون قدر الصِّحَّة ، فإذا مرضوا ، ثم عادت الصحَّة إليهم ، عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النِّعم ، فلهذا السَّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدَّالَّة على التَّوحيد بهذه الآية الكريمة .
قوله تعالى : " مَنْ يَتَّخِذُ " " مَنْ " : في محلِّ رفع بالابتداء ، وخبره الجارُّ قبله ، ويجوز فيها وجهان :
فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة بعدها . وعلى الثاني : محلُّها الرَّفع ، أي : فريقٌ ، أو شخصٌ متَّخذٌ ، وأفرد الضمير في " يَتَّخِذُ " ؛ حملاً على لفظ " مَنْ " و " يَتَّخِذُ " : يفتعل ، من " الأَخْذ " ، وهي متعدِّية إلى واحد ، وهو " أنداداً " .
قوله تعالى : " مِنْ دُونِ اللَّهِ " : متعلِّق ب " يَتَّخِدُ " ، والمراد ب " دُونِ " [ هنا " غَيْرَ " ]{[2188]} ، وأصلها إذا قلت : " اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً " ، أصله : اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك ، ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازيٌّ ، وإذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه ، ودونه ؛ لزم أن يكون غيراً ؛ [ لأنه ليس إيَّاه ، ثم حُذِف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، مع كونه غيراً ]{[2189]} ، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق ، لا بطريق الوضع لغةً ، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة .
فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد
اختلفوا في " الأَنْدَاد " ، فقال أكثر المفسِّرين{[2190]} : هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً ، ورجوا من عندها النفع والضُّرَّ ، وقصدوها بالمسائل ، وقرَّبوا لها القرابين ؛ فعلى هذا : الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ ، والمعنى : أنَّها أندادٌ لله تعالى ؛ بحسب ظنونهم الفاسدة .
وقال السُّدِّيُّ : إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم ، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله ، ويحرِّمون ما أحلَّ الله ؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه{[2191]} :
الأوَّل : ضمير العقلاء في " يُحِبُّونَهُمْ " .
والثاني : يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى ، مع علمهم بأنها لا تضر ، ولا تنفع .
الثالث : قوله بعد هذه الآية : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } [ البقرة : 166 ] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء .
وقال الصُّوفية{[2192]} : كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى ؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى :
{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] .
قوله تعالى : " يُحِبُّونَهُمْ " في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون في محلِّ رفع ؛ صفة ل " مَنْ " في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها ؛ باعتبار المعنى ، بعد اعتبار اللَّفظ في " يَتَّخِذُ " .
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ ؛ صفةً ل " أَنْدَاداً " ، والضمير المنصوب يعود عليهم ، والمراد بهم الأصنام ؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء ؛ [ لمعاملتهم له معاملة العقلاء ، أو يكون المراد بهم : من عبد من دون الله من العقلاء ]{[2193]}وغيرهم ، ثم غلب العقلاء على غيرهم .
قال ابْنُ كَيْسَانَ ، والزَّجَّاجُ : معناه : كَحُبِّ اللَّه ، أي : يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة{[2194]} .
قال أبو إسْحَاقَ : وهذا القول الصحيح ؛ ويدلُّ عليه قوله : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ } نقله القرطبيُّ{[2195]} .
الثالث : أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في " يَتَّخِذُ " ، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في " يَتَّخِذُ " ، وجُمِعَ حملاً على المعنى ؛ كما تقدَّم .
قال ابن الخطيب{[2196]} رحمه الله تعالى : في الآية حَذْفٌ ، أي : يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ ، والانقياد إليهم .
قوله تعالى : " كَحُبِّ الله " الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : يحبُّونَهُمْ حُبّاً كَحُبِّ اللَّه ، وأمَّا على الحال من المَصدر المعرَّف ؛ كما تقرَّر غير مَرَّة ، والحُبُّ : إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيراً ، وأصله من : حَبَبْتُ فُلانَاً : أصبتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ ؛ نحو : كَبِدتُهُ ، وأَحْبَبْتُهُ : جعلت قَلْبِي مُعرَّضاً بأنْ يُحِبَّهُ ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال : أَحْبَبْتُهُ ، فهو مَحْبُوبٌ ، وَمُحَبٌّ قليلٌ ؛ كقول القائل : [ الكامل ]
877 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ *** مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ{[2197]}
والحُبُّ في الأصل : مصدرُ " حَبَّهُ " وكان قياسه فتح الحاء ، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم ، وهو قياس فعل المضعَّف ، وشَذَّ كسره ، و " مَحْبُوب " أكثر مِنْ " مُحَبٍّ " ، و " مُحَبٌّ " أكثر من " حَابٍّ " وقد جمع الحُبُّ ؛ لاختلاف أنواعه ؛ قال : [ الطويل ]
878 - ثَلاًثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ *** وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ{[2198]}
والحُبُّ مصدرٌ مضافٌ لمنصُوبِهِ ، والفاعلُ محذوفٌ ، تقديرُه ، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللَّهَ ؛ بمعنى : أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن : حبِّ الأنداد ، وحُبِّ الله .
وقال ابن عطيَّة : " حُبّ " : مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ ، يريدُ به : أنَّ ذلك تقديرُه : كَحُبِّكُمُ اللَّهَ أو كَحُبِّهِمُ اللَّهَ ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ انتهى .
وقوله : " للفاعل المُضْمر " يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ ، وهو " كمْ " أو " هُمْ " أو يُسَمَّى الحذف إضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال ؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم ؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ .
وقال الزمخشريُّ : " كَحُبِّ اللَّهِ " كتعظيم الله ، والخُضُوع ، أي : كما يُحَبُّ اللَّهُ ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول ، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ ؛ لأنه غير مُلتبسٍ انتهى .
أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول ، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة ؛ أعني : الجوازَ مُطْلَقاً .
والثاني : المَنْعُ مُطْلَقاً : وهو الصحيحُ .
والثالث : [ التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول ، فيجوز ؛ نحو : عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ{[2199]} ] زيد بالعلم ، ومنه الآية الكريمةُ ؛ فإنَّ الغالب من " حُبّ " أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها ، فلا يجوزُ ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر ، وَذُوا الطُّفيتين{[2200]} برفع " ذُو " ؛ عَطْفاً على محل " الأبتر " ؛ لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً ، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ ، ولتَقرير هذه الأقْوال موضعٌ غير هذا .
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر " المُؤْمنِينَ " أو ضميرهم .
وقال " لَيْسَ بشَيْءٍ " والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين ، أي : يحبُّون الأصنام ، كما يُحبُّون الله ؛ لأنَّهم اشركوها مع الله ، فَسَوَّوْا بين الله تعالى ، وبين أوثانهم في المَحَبَّة ، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم ، وبين محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي قوله { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة . وقرأ أبو رجاء{[2201]} : " يَحُبُّونَهُمْ " بفتح الياء من " حَبَّ " ثلاثيّاً ، و " أَحَبَّ " أكثر ، وفي المَثَل : " مَنْ حَبَّ طَبَّ " .
فصل في المراد من قوله كحب الله
في قوله : كَحُبِّ الله قولان :
والثاني : كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ .
فإِن قيل : العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله ؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع ، ولا تعقلُ ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً ؛ كما قال تعالى :
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [ لقمان : 25 ] فمع هذا الاعتقادِ ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى ، وقال تعالى ؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ ؟
والجواب : كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها ، والتَّعْظِيمِ ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه .
قوله تعالى : " أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ " : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [ الأندادَ ، أي : أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين{[2202]} ] الأنْدادَ لأوثانهم ؛ وقال أبو البقاء{[2203]} : ما يتعلَّق به " أَشَدُّ " محذوفٌ ، تقديره : أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد ، والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [ أوثَانَهُمْ ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء ]{[2204]} المتَّخذون الأنداد ؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره ، وأتى ب " أشَدُّ " موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة " الحُبِّ " ؛ لأنَّ " حُبَّ " مبنيٌّ للمفعول ، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه ، ولا يبنى منه " أَفْعَل " للتَّفضيلِ ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك .
[ فأمَّا قوله : " مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ " فشاذٌّ على خلافٍ في ذلك ، و " حُبّاً " تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ ، تقديره : حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ ]{[2205]} .
فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله
معنى " أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ " ، أي : أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما سواه ، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً ، ثم رأوا أحسن منه ، طرحوا الأوَّل ، واختاروا الثَّاني{[2206]} قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- .
وقال قتادة : إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء ، ويُقبل على الله تعالى [ كما أخبر الله تعالى عنهم ، فقال :
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ العنبكوت : 65 ] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله ]{[2207]} في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء ، والشِّدَّة والرَّخاء ؛ وقال سعيد بن جُبير{[2208]} : إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام : أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم ، فلا يَدْخُلُون ؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين ، وهم بين أَيدِي الكفَّار : إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها ، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } .
وقيل : وإنَّما قال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً ، ثم أحبُّوه ، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبَّة ، كانت محبته أتمَّ ؛ قال الله تعالى : " يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه " .
فإن قيل : كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة ، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين ، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى ، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله ؟ والجوابُ من وجوه :
أحدها : ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير .
وثانيها : أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في مُلْكه ، فأولئك الجُهَّال [ قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه ، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِهِ ، وذلك في الجهاد ]{[2209]} .
وثالثها : أنَّ الإنسَانَ ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ ، فالذي فعلوه باطلٌ .
ورابعها : أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم ، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً ، فتنقص محبَّة الواحد منهم ، أما الإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه .
قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } جواب " لَوْ " محذوفٌ ، واختلف في تقديره ، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة . قرأ عامر{[2210]} ونافعٌ : " وَلَو تَرَى " بتاء الخطاب ، " أنَّ القُوَّة " و " أَنَّ اللَّهَ " بفتحهما . وقرأ ابن عامر : " إِذْ يُرَوْنَ " بضم الياء ، والباقون بفتحها .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو والكوفيون : " وَلَوَ يَرَى " بياء الغَيْبَة ، " أنَّ القُوَّة " ، " أَنَّ اللَّهَ " بفتحهما . وقرأ الحسن ، وقتادة وشيبة{[2211]} ، ويعقوب ، وأبو جعفر : " وَلَوْ تَرَى " بتاء الخطاب ، " أَنَّ القُوَّةَ " ، و " إِنَّ اللَّهِ " بكسرهما . وقرا طائفةٌ : " وَلَوْ يَرَى " بياء الغيبة " إِنَّ القُوَّة " و " إِنَّ اللَّهِ " بكسرهما . إذا تقرَّر ذلك ، فقد اختلفوا في تقدير جواب " لَوْ " .
فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله : " أَنَّ القُوَّةَ " ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله : { وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ } هو قول أبي الحسن الأخفش . [ والمُبرِّد .
أمَّا مَنْ قدَّره قبل : " أَنَّ القوَّة " فيكون " أَنَّ الْقوةَ " معمولاً لذلك الجواب ]{[2212]} وتقديره على قراءة " تَرَى " بالخطاب وفَتح " أنَّ " و " أنَّ " : " لَعَلِمْتَ ، أَيها السَّامعُ ، أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعاً " والمراد بهذا الخطاب : إِمَّا النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وإمَّا : كُلُّ سامعٍ ، فيكون معناه : ولو تَرَى يا محمَّدُ ، أو يا أيُّها السَّامعُ ، الَّذين ظَلَمُوا ، يعني : أشركوا ، في شدَّة العذاب لرأيت أمراً عظيماً [ وقيل : معناه : قُلْ ، يا محمَّد ، أيُّها الظالم ، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ ، لرأيتَ أمراً فظيعاً ]{[2213]} .
وعلى قراءة{[2214]} الكَسرَ في " إِنَّ " يَكُونُ التقديرُ : لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم ، أو يكون التقدير : " لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ " ، وإنما كُسِرَتُ " إِنَّ " ؛ لأنَّ فيها معنى التعليل ؛ نحو قولك : " لو قَدِمْتَ على زيدٍ ، لأَحْسَن إلَيك ؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ " فقولُك : " إِنَّهُ مُكْرمٌ لِلضِّيفَانِ " علَّةٌ لقولك : " أَحْسَنَ إِلَيْكَ " وقال ابن عطيَّة{[2215]} : تقديره : " وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه ، واسْتِعْظَامِهِمْ له ، لأقَرُّوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ جمِيعاً " .
وناقشه أبو حَيَّان{[2216]} ، فقال : كانَ يَنْبغي أنْ يقول : " فِي وقْتِ رُؤْيتهم العذابَ " فيأتي بمرادف " إِذْ " وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضاً : فتقديرُه لجَوابِ " لو " غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي " لَوْ " ؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ - علَيْه الصَّلاة والسَّلام - الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ [ لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعاً ؛ وهو نظيرُ قولك : يَا زيَدُ ، لَوْ تَرَى عَمْراً فِي وَقْتِ ]{[2217]} ضَرْبِهِ ، لأَقرَّ أَنَّ الله - تعالى - قادِرٌ عَلَيْهِ . فإقرارُهُ بقُدْرة الله تعالى ليسَ مترتِّباً على رؤية زيدٍ . انتهى .
وتقديره على قراءة{[2218]} " يَرَى " بالغيبة : " لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ " [ إن كان فاعلُ " يَرَى " : الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وإنْ كان ضميراً يَعْودُ على السَّامع ، فيقدَّر : " لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة " ]{[2219]} وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله " شَدِيد العَذَابِ " ، فتقديره على قراءة " تَرَى{[2220]} " بالخطاب : " لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ " ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله ، أي : " لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعاً " وكسْرُها على معنى التعليل ؛ نحو : " أَكْرِمْ زيْداً ؛ إنَّه عالمٌ ، وأَهِنْ عَمْراً ؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ " أو تكون جملة معترضة بين " لَوْ " وجوابها المحذوف ، وتقديره ؛ على قراءة " وَلَوْ يَرَى " بالغيبة ، إن كان فاعلُ " يَرَى " ضمير السَّامع : " لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ " وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ ، كان التقديرُ " لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ " ويكون فتح " أَنَّ " على أَنَّهَا معمولةٌ ل " يَرَى " على أن يكون الفاعل " الَّذِينَ ظَلَمُوا " والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب ، فتسُدَّ " أَنَّ " مَسَدَّ مفعوليها ، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر ، فتكون في موضع مفعول واحدٍ .
وأمَّا قراءة " يَرَى " [ الَّذِينَ ] بالغيبة ، وكَسْر " إِنَّ " و " إِنَّ " فيكون الجواب قولاً محذوفاً ، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل ، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي ، لَقَالَ : " إِنَّ القُوَّةَ " وعلى كَونه " الَّذِينَ " : " لَقَالُوا " ويكون مفعول " يَرَى " محذوفاً ، أي : " لَوْ يَرَى حَالَهُمْ " ويحتمل أنْ يكون الجواب : " لاَسْتَعْظَمَ ، أو لاسْتَعْظَمُوا " على حسب القولين : وقدَّر بعضهم : { مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً } وإنَّما كُسِرَتَا ؛ استئنافاً ، وحَذُفُ جواب " لَوْ " شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل ، قال تبارك وتعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ }[ الأنعام : 93 ]
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } [ الرعد : 31 ] ويقولون : " لَوْ رَأَيْتَ فُلاَناً ، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ " قالوا : وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ في التخويف ممَّا إذا عيّن له ذلك الوعيد ، ففائدة الحذف استعظامُهُ وذهَابُ النَّفس كلَّ مَذْهَب فيه ؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه ، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ حذْفُه كثيراً ؛ قال امرُؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
879 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ *** سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا{[2221]}
880 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً *** أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ{[2222]}
ودخلت " إِذْ " ، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعه ؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك ؛ كقوله : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ }
[ الأعراف : 44 ] . وكما قال الأشتر : [ الكامل ]
881 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ *** وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً *** لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ{[2223]}
فأوقع " بَقَّيْتُ " و " انْحَرَفْتُ " - وهما بصيغة المضيِّ - موقع المستقبل ، لتعليقهما على مستقبلٍ ، وهو قوله : " إنْ لم أشنَّ " .
وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } [ الأنعام : 27 ]
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ } [ سبأ : 51 ] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريباً ، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووقع ، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن : قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة ، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة ؛ لقرب ذلك .
وقيل : أَوْقَعَ " إِذْ " موقع " إِذَا " ؛ [ وقيل : زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا ، فقام أحدهما مقام الآخر ؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه ، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا ، وهو في القرآن كثير ]{[2224]} .
وقرأ ابن عامر{[2225]} " يَرَوْنَ الْعَذَابَ " مبنيّاً للمفعول من " أَرَيْتُ " المنقولة مِنْ " رَأَيْتُ " بمعنى " أبْصَرْتُ " فتعدَّت لاثنين :
أولهما : قام مقام الفاعِلِ ، وهو الواو .
وقراءةُ الباقين{[2226]} واضحة .
وقال الراغب : قوله : أَنّ القُوَّةَ " بدلٌ من " الَّذِينَ " قال : " وهو ضعيفٌ " .
قال أبو حيَّان{[2227]} رحمه الله - ويَصيرُ المَعْنَى : " ولو تَرَى قُوَّة اللَّهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا " وقال في المُنْتَخَب : قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء ؛ قال : " لأَنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار ، وأما الكُفَّار ، فلم يعلَمُوه ؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم " وهذا أمر مردودٌ ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ .
قوله تعالى : " جميعاً " حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور ، والواقعِ خَبَراً ، لأنَّ تقديره : " أنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعاً " ، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالاً منَ القُوَّة ؛ فإن العامل في الحال ، هو العامل في صاحبها ، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال ، وهذا مشكل ؛ فإنهم أجازوا في " ليت " أن تعمل في الحال ، وكذا " كأنَّ " ؛ لِمَا فيها من معنى الفعل - وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ - فكان ينبغي أن يجوز ذلك في " أَنَّ " لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد .
و " جَمِيعٌ " في الأصل : " فَعِيلٌ " من الجمع ، وكأنه اسم جمع ؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد ؛ قال تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] وتارة بالجَمع ؛ قال تعالى : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] وينتصب حالاً ، ويؤكَّد به ؛ بمعنى : " كُلّ " ويدلُّ على الشمول ؛ كدلالة " كُلِّ " ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان ، تقول : " جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ " لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجيئهم في زمن واحدٍ ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينها وبين " جاءُوا معاً " .