الحب : مصدر حب يحب ، وقياس مضارعه يحب بالضم ، لأنه من المضاعف المتعدي ، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء ، ويقال : أحب ، بمعنى : حب ، وهو أكثر منه ، ومحبوب أكثر من محب ، ومحب أكثر من حاب ، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه ، قال الشاعر :
ثلاثة أحباب فحب علاقة *** وحب تملاق وحب هو القتل
الجميع : فعيل من الجمع ، وكأنه اسم جمع ، فلذلك يتبع تارة بالمفرد : { نحن جميع منتصر } ، وتارة بالجمع : { جميع لدينا محضرون } وينتصب حالاً : جاء زيد وعمرو جميعاً ، ويؤكد به بمعنى كلهم : جاء القوم جميعهم ، أي كلهم ، ولا يدل على الاجتماع في الزمان ، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل .
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق .
واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين .
والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئاً منها .
ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان .
فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه .
قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله .
وقيل : عباد الأوثان ، والأولى القول الأول .
ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء .
ومن : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من ، ومن دون الله متعلق بيتخذ ، ودون هنا بمعنى غير ، وأصلها أن يكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك .
قال ابن عطية : ومن دون : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد . انتهى .
تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب .
وتقول : اتخذت منك صديقاً ، واتخذت من دونك صديقاً .
فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً .
فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيداً لم يقم ، فدلالتها دلالة غير في هذا .
والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته .
وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفاً ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكاناً دون مكانك ، أي منحطاً عن مكانك .
وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان .
ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ، ونحن نوضحه فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقاً ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازي .
وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيراً ، لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك .
وانتصب أنداداً هنا على المفعول بيتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقاً ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته .
قال ابن عباس والسّدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى .
وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل .
وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة .
وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : { يحبونهم } ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم .
والجملة من يحبونهم صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة .
وجاز ذلك ، لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى ، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين .
{ كحب الله } ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبهاً حب الله ، وعلى الثاني تقديره : حباً مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله .
وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة .
فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضماراً .
وإنما قلت ذلك ، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمراً في المصدر .
وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها .
وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ، لأنه غير ملبس .
وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } انتهى كلامه .
واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف .
أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول ؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك ؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقاً .
وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ، لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها .
وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طبّ ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر العين شذوذاً ، لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجر يجره .
{ والذين آمنوا أشد حباً لله } : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال .
وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله . انتهى .
وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته .
وأصل الحب في اللغة : اللزوم ، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن .
والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف .
فقيل : معنى أشد حباً لله : أي منهم لله ، لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن ؛ أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره .
ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئاً أن يقتحم النار ، فيبادرون إليه ، فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ان جبير .
تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد .
وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه .
والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز .
وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته .
فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه .
وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحت اللذة لذاتها ، لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته .
وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد .
وأنت لو قلت : ما أحب زيداً ، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل .
لا تقول : ما أضرب زيداً ، على أن زيداً حل به الضرب .
وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز زيد أحب لعمرو ، لأنه يكون المعنى : أن زيداً هو المحبوب لعمرو .
فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر .
على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إليّ ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح .
وانتصاب حباً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم ، على اختلاف القولين .
{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب } : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما .
وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء .
وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق إن القوة ، وإن بكسرهما .
وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما .
وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما .
ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره .
فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولاً لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعاً ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له .
وقد كان صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا .
ومن قرأ بالكسر ، قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو ؟ أهو السامع ؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم .
وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان .
وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له ، لأقروا أن القوة لله .
فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في أن انتهى .
وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب .
وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ، إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضاً فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ، لأن رؤية السامع ، أو النبي صلى الله عليه وسلم الظالمين في وقت رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً .
وصار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمراً في وقت ضربه ، لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد .
وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح ، أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعاً ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعاً .
ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله { وأن الله شديد العذاب } ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة ولو ترى بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة ولو يرى للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم .
وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً .
وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولاً من أجله ، أي لأن القوة لله جميعاً ، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي ، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيداً إنه عالم ، ولا تكرم عمراً إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف .
وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول : ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم .
وترى في قوله : ولو ترى ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية .
وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه .
والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاماً ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار .
ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد .
وقراءة ابن عامر : إذ يرون ، مبنياً للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت .
ودخلت إذ ، وهي للظرف الماضي ، في أثناء هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه ، كما يقع الماضي المستقبل في قوله : { ونادى أصحاب النار } وكما جاء :
بقيت وفري وانحرفت عن العلى*** ولقيت أضيافي بوجه عبوس
لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله :
إن لم أشن على ابن هند غارة*** لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب .
قال تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال } وقال امرؤ القيس :
وجدك لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين فيها .
قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعاً .
وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوّة لله جميعاً ، أي لتبرأوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين .
وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب .
وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم .
وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف . انتهى .
ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا .
وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم . انتهى .
ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ، لأنهما متواترتان .
وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور .
والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعاً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة ، لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في الأحوال .
وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف .
وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة .