البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

الحب : مصدر حب يحب ، وقياس مضارعه يحب بالضم ، لأنه من المضاعف المتعدي ، وقياس المصدر الحب بفتح الحاء ، ويقال : أحب ، بمعنى : حب ، وهو أكثر منه ، ومحبوب أكثر من محب ، ومحب أكثر من حاب ، وقد جاء جمع الحب لاختلاف أنواعه ، قال الشاعر :

ثلاثة أحباب فحب علاقة *** وحب تملاق وحب هو القتل

والحب : إناء يجعل فيه الماء .

الجميع : فعيل من الجمع ، وكأنه اسم جمع ، فلذلك يتبع تارة بالمفرد : { نحن جميع منتصر } ، وتارة بالجمع : { جميع لدينا محضرون } وينتصب حالاً : جاء زيد وعمرو جميعاً ، ويؤكد به بمعنى كلهم : جاء القوم جميعهم ، أي كلهم ، ولا يدل على الاجتماع في الزمان ، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل .

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } : لما قرر تعالى التوحيد بالدلائل الباهرة ، أعقب ذلك بذكر من لم يوفق .

واتخاذه الأنداد من دون الله ، ليظهر تفاوت ما بين المنهجين .

والضد يظهر حسنه الضد ، وأنه مع وضوح هذه الآيات ، لم يشاهد هذا الضال شيئاً منها .

ولفظ الناس عام ، والأحسن حمله على الطائفتين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان .

فالأنداد ، باعتبار أهل الكتاب هم رؤساؤهم وأحبارهم ، اتبعوا ما رتبوه لهم من أمر ونهي ، وإن خالف أمر الله ونهيه .

قال تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } والأنداد ، باعتبار عبادة الأوثان هي الأصنام ، اتخذوها آلهة وعبدوها من دون الله .

وقيل : المراد بالناس الخصوص .

فقيل : أهل الكتاب .

وقيل : عباد الأوثان ، والأولى القول الأول .

ورجح كونهم أهل الكتاب بقوله : يحبونهم ، فأتى بضمير العقلاء ، وباستبعاد محبة الأصنام ، وبقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } ، والتبرؤ لا يناسب إلا العقلاء .

ومن : مبتدأ موصول ، أو نكرة موصوفة ، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من ، ومن دون الله متعلق بيتخذ ، ودون هنا بمعنى غير ، وأصلها أن يكون ظرف مكان ، وهي نادرة التصرف إذ ذاك .

قال ابن عطية : ومن دون : لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام ، وتفسير دون بسوى ، أو بغير ، لا يطرد . انتهى .

تقول : فعلت هذا من دونك ، أي وأنت غائب .

وتقول : اتخذت منك صديقاً ، واتخذت من دونك صديقاً .

فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً .

وتقول : قام القوم دون زيد .

فالذي يفهم من هذا : أن المعنى أن زيداً لم يقم ، فدلالتها دلالة غير في هذا .

والذي ذكر النحويون ، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان ، وأنها قليلة التصرف نادرته .

وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء ، تقول : هذا ثوب دون أي رديء ، فإذا كانت ظرفاً ، دلت على انحطاط المكان ، فتقول : قعد زيد دونك ، فالمعنى : قعد زيد مكاناً دون مكانك ، أي منحطاً عن مكانك .

وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول : زيد دون عمرو في الشرف ، تريد المكانة لا المكان .

ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء ، ونحن نوضحه فنقول : إذا قلت : اتخذت من دونك صديقاً ، فأصله : اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازي .

وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه ، لزم أن يكون غيراً ، لأنه ليس إياه ، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً ، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب ، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك .

وانتصب أنداداً هنا على المفعول بيتخذ ، وهي هنا متعدية إلى واحد ، نحو قولك : اتخذت منك صديقاً ، وهي افتعل من الأخذ ، وقد تقدم الكلام على الند وعلى اتخذ ، فأغنى عن إعادته .

قال ابن عباس والسّدي : الأنداد : الرؤساء المتبعون ، يطيعونهم في معاصي الله تعالى .

وقال مجاهد وقتادة : الأنداد : الأوثان ، وجاء الضمير في يحبونهم ضمير من يعقل .

وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد : المجموع من الأوثان والرؤساء ، وتكون الآية عامة .

وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في : { يحبونهم } ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم .

والجملة من يحبونهم صفة للأنداد ، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ ، ويجوز أن تكون صفة لمن ، إذا جعلتها نكرة موصوفة .

وجاز ذلك ، لأن في يحبونهم ضمير أنداد ، أو ضمير من ، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى ، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ ، إذ أفرد الضمير ، وقد وقع الفصل بين الجملتين ، وهو شرط على مذهب الكوفيين .

{ كحب الله } ، الكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف ، على رأي سيبويه ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، على رأي جمهور المعربين ، التقدير : على الأول يحبونهموه ، أي الحب مشبهاً حب الله ، وعلى الثاني تقديره : حباً مثل حب الله ، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب ، والفاعل محذوف ، التقدير : كحبهم الله ، أو كحب المؤمنين الله ، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين ، حب الأنداد وحب الله .

وقال ابن عطية : حب : مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر ، تقديره : كحبكم الله ، أو كحبهم ، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة .

انتهى كلامه .

فقوله : مضاف إلى الفاعل المضمر ، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل ، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم ، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره ، أو يعني بالمضمر المحذوف ، وهو موجود في اصطلاح النحويين ، أعني أن يسمى الحذف إضماراً .

وإنما قلت ذلك ، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف ، وإنما يكون مضمراً في المصدر .

وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس ، كالزيت والقمح ، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها .

وقال الزمخشري : كحب الله : كتعظيم الله والخضوع له ، أي كما يحب الله ، على أنه مصدر من المبني للمفعول ، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه ، لأنه غير ملبس .

وقيل : كحبهم الله ، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم ، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه ، { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } انتهى كلامه .

واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي مسألة خلاف .

أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول ؟ فيجوز : عجبت من ضرب زيد ، على أنه مفعول لم يسم فاعله ، ثم يضاف إليه ، أم لا يجوز ذلك ؟ فيه ثلاثة مذاهب ، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو : عجبت من جنون بالعلم زيد ، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، أو من فعل يجوز أن يبنى للفاعل ، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول ، ويمتنع في الثاني ، وأصحها المنع مطلقاً .

وتقرير هذا كله في النحو .

وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين ، أو ضميرهم ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي العالية ، وابن زيد ، ومقاتل ، والفراء ، والمبرد ، وقال : ليس بشيء ، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين ، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله ، لأنهم أشركوها مع الله تعالى ، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها .

وقرأ أبو رجاء العطاردي : يحبونهم ، بفتح الياء ، وهي لغة ، وفي المثل السائر : من حب طبّ ، وجاء مضارعه على يحب ، بكسر العين شذوذاً ، لأنه مضاعف متعد ، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو : مده يمده ، وجر يجره .

{ والذين آمنوا أشد حباً لله } : قال الراغب : الحب أصله من المحبة ، حببته : أصبت حبة قلبه ، وأصبته بحبة القلب ، وهي في اللفظ فعل ، وفي الحقيقة انفعال .

وإذا استعمل في الله ، فالمعنى : أصاب حبة قلب عبده ، فجعلها مصونة عن الهوى والشيطان وسائر أعداء الله . انتهى .

وقال عبد الجبار : حب العبد لله : تعظيمه والتمسك بطاعته ، وحب الله العبد : إرادة الثناء عليه وإثابته .

وأصل الحب في اللغة : اللزوم ، لأن المحب يلزم حبيبه ما أمكن .

اه .

والمفضل عليه محذوف ، وهم المتخذون الأنداد ، ومتعلق الحب الثاني فيه خلاف .

فقيل : معنى أشد حباً لله : أي منهم لله ، لأن حبهم لله بواسطة ، قاله الحسن ؛ أو منهم لأوثانهم ، قاله غيره .

ومقتضى التمييز بالأشدية ، إفراد المؤمنين له بالمحبة ، أو لمعرفتهم بموجب الحب ، أو لمحبتهم إياه بالغيب ، أو لشهادته تعالى لهم بالمحبة ، إذ قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } ، أو لإقبال المؤمن على ربه في السراء والضراء والشدة والرخاء ، أو لعدم انتقاله عن مولاه ولا يختار عليه سواه ، أو لعلمه بأن الله خالق الصنم وهو الضارّ النافع ، أو لكون حبه بالعقل والدليل ، أو لامتثاله أمره حتى في القيامة حين يأمر الله تعالى من عبده لا يشرك به شيئاً أن يقتحم النار ، فيبادرون إليه ، فتبرد عليهم النار ، فينادي مناد تحت العرش : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، ويأمر من عبد الأصنام أن يدخل معهم النار فيجزعون ، قاله ان جبير .

تسعة أقوال ثبتت نقائضها ومقابلاتها لمتخذ الأنداد .

وهذه كلها خصائص ميز الله بها المؤمنين في حبه على الكافرين ، فذكر كل واحد من المفسرين خصيصيه .

والمجموع هو المقتضى لتمييز الحب ، فلا تباين بين الأقوال على هذا ، لأن كل قول منها ليس على جهة الحصر فيه ، إنما هو مثال من أمثلة مقتضى التمييز .

وقال في المنتخب جمهور المتكلمين : على أن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته .

فإذا قلنا : يحب الله ، فمعناه : يحب طاعة الله وخدمته وثوابه وإحسانه .

وحكى عن قوم سماهم هو بالعارفين أنهم قالوا : نحب الله لذاته ، كما نحت اللذة لذاتها ، لأنه تعالى موصوف بالكمال ، والكمال محبوب لذاته .

انتهى كلامه .

وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً ، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد .

وأنت لو قلت : ما أحب زيداً ، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل ، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول ، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول ، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل .

لا تقول : ما أضرب زيداً ، على أن زيداً حل به الضرب .

وإذا تقرر هذا ، فلا يجوز زيد أحب لعمرو ، لأنه يكون المعنى : أن زيداً هو المحبوب لعمرو .

فلما لم يجز ذلك ، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك ، فتقول : ما أشد حب زيد لعمرو ، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر .

على أنهم قد شذوا فقالوا : ما أحبه إليّ ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس ، ويعدل على الصحيح الفصيح .

وانتصاب حباً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره : حبهم لله أشد من حب أولئك لله ، أو لأندادهم ، على اختلاف القولين .

{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب } : قرأ نافع وابن عامر : وإذ ترون ، بالتاء من فوق أن القوة ، وأن بفتحهما .

وقرأ ابن عامر : إذ يرون ، بضم الياء .

وقرأ الباقون : بالفتح .

وقرأ الحسن ، وقتادة ، وشيبة ، وأبو جعفر ، ويعقوب : ولو ترى ، بالتاء من فوق إن القوة ، وإن بكسرهما .

وقرأ الكوفيون ، وأبو عمرو ، وابن كثير : ولو يرى ، بالياء من أسفل أن القوة ، وأن بفتحهما .

وقرأت طائفة : ولو يرى ، بالياء من أسفل إن القوة ، وإن بكسرهما .

ولو هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، فلا بد لها من جواب ، واختلف في تقديره .

فمنهم من قدره قبل أن القوة ، فيكون أن القوة معمولاً لذلك الجواب ، التقدير : على قراءة من قرأ بالتاء من فوق ، لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعاً ، أو لعلمت يا محمد أن كان المخاطب في ولو ترى له .

وقد كان صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب ، والمراد أمته ، فإن فيهم من يحتاج لتقوية علمه بمشاهدة مثل هذا .

ومن قرأ بالكسر ، قدر الجواب : لقلت إن القوة على اختلاف القولين في المخاطب بقوله : ولو ترى من هو ؟ أهو السامع ؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم ؟ أو يكون التقدير : لاستعظمت حالهم .

وأن القوة ، وإن كانت مكسورة ، فيها معنى التعليل مثل : لو قدمت على زيد لأحسن إليك ، إنه مكرم للضيفان .

وقال ابن عطية : تقدير ذلك : ولو ترى الذين ظلموا ، في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له ، لأقروا أن القوة لله .

فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى ، وهو العامل في أن انتهى .

وفيه مناقشة ، وهو قوله : في حال رؤيتهم العذاب .

وكان ينبغي أن يقدر بمرادف ، إذ وهو قوله : في وقت رؤيتهم العذاب ، وأيضاً فقدر جواب لو ، وهو غير مترتب على ما يلي لو ، لأن رؤية السامع ، أو النبي صلى الله عليه وسلم الظالمين في وقت رؤيتهم ، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً .

وصار نظير قولك : يا زيد لو ترى عمراً في وقت ضربه ، لأقر أن الله قادر عليه ، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد .

وعلى من قرأ : ولو يرى ، بالياء من أسفل وفتح ، أن يكون تقدير الجواب : لعلموا أن القوة لله جميعاً ، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا ، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو ، أي السامع ، كان التقدير : لعلم أن القوة لله جميعاً .

ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله { وأن الله شديد العذاب } ، وهو قول أبي الحسن الأخفش ، وأبي العباس المبرد ، وتقديره : على قراءة ولو ترى بالخطاب ، لاستعظمت ما حل بهم ، وعلى قراءة ولو يرى للغائب ، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير : لاستعظم ذلك ، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل ، كان التقدير : لاستعظموا ما حل بهم .

وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام ، وكانت أن مفتوحة ، فتوجيه فتحها على تقديرين : أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء ، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً .

وأما من قرأ بالتاء ، فتكون أن مفعولاً من أجله ، أي لأن القوة لله جميعاً ، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى ، وقدر الجواب آخر الكلام ، فهي ، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة ، دالة على التعليل ، تقول : لا تهن زيداً إنه عالم ، ولا تكرم عمراً إنه جاهل ، فهي على معنى المفتوحة من التعليل ، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف .

وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين ، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو ، أي لقالوا إن القوة ، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف ، أي لاستعظموا ذلك ، ومفعول : ترى محذوف ، أي ولو رأى الظالمون حالهم .

وترى في قوله : ولو ترى ، يحتمل أن تكون بصرية ، وهو قول أبي علي ، ويحتمل أن تكون عرفانية .

وإذا جعلت أن معمولة ليرى ، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين ، سدت أن مسدهما ، على مذهب سيبويه .

والذين ظلموا ، إشارة إلى متخذي الأنداد ، ونبه على العلية ، أو يكون عاماً ، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار .

ولكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد .

وقراءة ابن عامر : إذ يرون ، مبنياً للمفعول ، هو من أريت المنقولة من رأيت ، بمعنى أبصرت .

ودخلت إذ ، وهي للظرف الماضي ، في أثناء هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه ، كما يقع الماضي المستقبل في قوله : { ونادى أصحاب النار } وكما جاء :

بقيت وفري وانحرفت عن العلى*** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

لأنه علق ذلك على مستقبل ، وهو قوله :

إن لم أشن على ابن هند غارة*** لم تخل يوماً من نهاب نفوس

وحذف جواب لو ، لفهم المعنى ، كثير في القرآن ، وفي لسان العرب .

قال تعالى : { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال } وقال امرؤ القيس :

وجدك لو شيء أتانا رسوله*** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب ، ونحن نذكر من كلام المفسرين فيها .

قال عطاء : المعنى : ولو يرى الذين ظلموا يوم القيامة ، إذ يرون العذاب حين تخرج إليهم جهنم من مسيرة خمسمائة عام تلتقطهم كما يلتقط الحمام الحبة ، لعلموا أن القوة والقدرة لله جميعاً .

وقيل : لو يعلمون في الدنيا ما يعلمونه ، إذ يرون العذاب ، لأقروا بأن القوّة لله جميعاً ، أي لتبرأوا من الأنداد ، والثانية من رؤية العين .

وقال التبريزي : لو اعتقدوا أن الله يقدر ويقوى على تعذيبهم يوم القيامة ، لامتنعوا عما يوجب الجزاء بالعذاب .

وقال الزمخشري : ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم ، أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم ، ويعلمون شدّة عقابه للظالمين ، إذ عاينوا العذاب يوم القيامة ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع الظلم بظلمهم وضلالهم .

انتهى كلامه .

وحكى الراغب : أن بعضهم زعم أن القوة بدل من الذين ، قال : وهو ضعيف . انتهى .

ويصير المعنى : ولو ترى قوة الله وقدرته على الذين ظلموا .

وقال في المنتخب : قراءة الياء عند بعضهم أولى من قراءة التاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ويعاينونه من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون فإنهم لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم . انتهى .

ولا فرق عندنا بين القراءتين ، أعني التاء والياء ، لأنهما متواترتان .

وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور .

والقوة هنا مصدر أريد به الجنس ، التقدير : أن القوى مستقرة لله جميعاً ، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة ، لأن العامل في القوة أن ، وأن لا تعمل في الأحوال .

وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت : إن الله قوي ، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف .

وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى ، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك ، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة .

/خ167