فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } .

{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } إظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف ، وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه .

ولما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته ، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه وجليل قدرته وتفرده بالخلق ، وقد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندا يعبده من الأصنام كذا قيل وقد تقدم تفسير الأنداد مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد ، بل أحبوها حبا عظيما ، وأفرطوا في ذلك إفراطا بالغا حتى صار حبهم لهذه الأوثان ونحوها متمكنا في صدورهم كتمكن حب المؤمنين لله سبحانه ويجوز أن يكون المراد كحبهم لله أي عبدة الأوثان ، قال الزجاج وابن كيسان ، ويجوز أن يكون مبنيا للمفعول ومعناه كما يحب الله ويعظم ، والأول أولى لقوله :

{ والذين آمنوا أشد حبا لله } فإنه استدراك لما يفيده التشبيه من التساوي أي أن حب المؤمنين لله أشد من حب الكفار للأنداد لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة والدعاء ، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك بل يشركون الله معهم ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ليقربوهم إلى الله ويمكن أن يجعل هذه الجملة دليلا على الثاني لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حبا لله لم يكن حب الكفار للأنداد كحب المؤمنين لله وقيل المراد بالأنداد هنا الرؤساء والكبراء أي يطيعونهم في معاصي الله ، ويقوي هذا الضمير في قوله { يحبونهم } فإنه لمن يعقل ويقويه أيضا قوله سبحانه عقب ذلك { إذا تبرأ الذين اتبعوا } الآية ، والحب نقيض البغض والمحبة والإرادة وقيل في معنى الآية غير ذلك وإيثار إظهار الاسم الجليل في الموضع الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته .

{ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب } قرأ أهل مكة بالياء وأهل الشام بالفوقية ، والمعنى على الأول لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه { أن القوة لله جميعا } قاله أبو عبيدة قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير انتهى ، وعلى هذا فالرؤية هي البصرية لا القلبية ، وروي عن محمد ابن يزيد قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيدة بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة لأنه يقدر ولو يرى الذين ظلموا العذاب فكأنه يجعله مشكوكا فيه وقد أوجبه الله تعالى ولكن التقدير وهو الأحسن ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ، ويرى معنى يعلم أي لو يعلمون حقيقة قوة الله وشدة عذابه ، قال : وجواب لو محذوف أي لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } .

ومن قرأ بالفوقية فالتقدير لو ترى يا محمد صلى الله عليه وسلم الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعا ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ؛ ولكن خوطب بهذا الخطاب والمراد به أمته ، وقيل { أن } في موضع نصب مفعول لأجله أي لأن القوة لله ، ودخلت إذ وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه ، وهو ما يتكرر في القرآن كثيرا ، وجميع في الأصل فعيل من الجمع وكأنه اسم جمع فلذلك يتبع تارة بالمفرد ، وقال تعالى : { نحن جمع منتصر } وتارة بالجمع قال تعالى { جميع لدينا محضرون } وينتصب حالا ويؤكد بمعنى كل ، ويدل على الشمول كدلالة كل ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزمان .

{ وأن الله شديد العذاب } عطف على ما قبله وفائدته تهويل الخطب وتفظيع الأمر ، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه .