غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

165

التفسير : أنه سبحانه وتعالى لما قرر للتوحيد الدلائل الباهرة عقبها تقبيح ما يضاده " فبضدها تتبين الأشياء " والند المثل المناد كما سلف . والمراد بالأنداد ههنا هي الأصنام التي اعتقد المشركون أنها تقربهم إلى الله زلفى ، ونذروا لها النذور وقربوا لأجلها القرابين ، وقيل : يعني السادة الذين كانوا يطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم محلين ما حرم الله ومحرّمين ما أحل . عن السدى : واستدل على تفسيره بأن قوله { يحبونهم } فيه ضمير العقلاء ولأنه من المستبعد أن تكون محبتهم لها كمحبتهم لله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ولقوله { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتّبعوا } وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ العقلاء أنداداً وأمثالاً لله تعالى يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ما يلتزمه المؤمنون لله تعالى . ويمكن تزييف الحجج بأن ضمير العقلاء جاز عوده إلى الأصنام بناء على اعتقاد الجهلة حيث نظموها في سلك المعبود الحق . قال تعالى { وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم } [ فاطر : 14 ] . وأيضاً علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع ممنوع ولو علموا بذلك ما أشركوا وأيضاً التبري لا يمتنع من الأصنام بدليل قوله تعالى { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [ فاطر : 14 ] وقال أهل العرفان : كل شيء شغلت قلبك به سوى الله فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] { يحبونهم } يحبون عبادتهم أو التقرب إليهم والانقياد لهم ، أو يعظمونهم ويخضعون لهم كحب الله من إضافة المصدر إلى المفعول أي كما يحب الله على أنه مصدر من المبني المفعول . وإنما استغنى عن ذكر من يحبه وهم المؤمنون لأنه غير ملتبس . وقيل : كالحب اللازم عليهم لله وقيل : كحبهم الله أي يسوّون بينه وبينهم في محبتهم بناء على أنهم كانوا مقرّين بالله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } [ العنكبوت : 65 ] { والذين آمنوا أشدُ حباً لله } لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره في السراء ولا في الضراء ، ولا يجعلون وسائط بينهم وبينه بخلاف المشركين يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره ، أو يأكلونه كما أكلت باهلة آلهتها من حيس وهو الأقط والسمن والتمر عام المجاعة وفيهم قال الشاعر :

أكلت حنيفة ربها *** زمن التجعم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم *** سوء العواقب والتباعة

واعلم أن إطلاق محبة العبد لله تعالى قد ورد في القرآن والحديث كما في هذه الآية وكقوله { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ويروى أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت . وقد جاء لقبض روحه - هل رأيت خليلاً يميت خليله ؟ فأوحى الله إليه : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله . فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض . وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال : " ماذا أعددت لها " فقال : ما أعددت كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله . فقال صلى الله عليه وسلم : " المرء مع من أحبه " . ثم إن الأئمة اختلفوا في معناها فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، ويستحيل تعلق المحبة بذات الله وصفاته ، فمعنى قولنا يحب الله يحب طاعة الله وخدمته أو يحب ثوابه وإحسانه . وأما العارفون فيقولون : إنا نحب الله لذاته لا لغرض ، ولو كان كل شيء محبوباً لأجل شيء آخر دار أو تسلسل وإذا كنا نحب الرجل العالم لعلمه ، والرجل الشجاع لقوته وغلبته ، والرجل الزاهد لبراءة ساحته عن المثالب ، فالله تعالى أحق بالمحبة لأن كل كمال بالنسبة إلى كماله نقص ، والكمال مطلوب لذاته محبوب لنفسه . وكلما كان الاطلاع على دقائق حكمة الله وقدرته وصنعه أكثر كان حبه له أتم ، وبحسب الترقي في درجات العرفان تزداد المحبة إلى أن يستولي سلطان الحب على قلب المؤمن فيشغله عن الالتفات لغيره ويفنى عن حظوظ نفسه ، فيه يسمع وبه يبصر وبه يمشي ويتكلم بلسان الحال " ليس في جبتي سوى الله " فلا يعصي الله طرفة عين ولا يشتغل بحظ نفسه لمحة بصر كما قيل :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته *** إن المحب لمن يحب مطيع

ويحب الله ويحب أولياءه ومقربيه ويناوئ أعداءه ومخالفيه { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] .

لعين تغدى ألف عين ويتقى *** ويكرم ألف للحبيب المكرم

{ ولو يرى } قرئ بالياء والتاء و " أن " و " إن " بالفتح والكسر فههنا أربعة تقديرات : الأول : لو يعلم الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد إذا عاينوا العذاب يوم القيامة أن القدرة كلها لله على كل شيء من العقاب والثواب دون أندادهم وأن عذاب الله للظالمين شديد ، لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة ووقوع العلم بظلمهم وضلالهم . وحذف جواب { لو } دليل على فخامة شأن المحذوف ليذهب الوهم كل مذهب ويقدر من الفظاعة ما لا يكتنه كنهه كقولهم " لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه " بخلاف ما وقع التعبير عنه بلفظ معين . الثاني : ولو ترى - يا محمد أو يا من يتأتى منه الرؤية - هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم وقت معاينتهم العذاب بمعاينتهم أن القدرة كلها لله وأنه شديد العذاب ، لرأيت أمراً عظيماً . فعلى هذا " أن " و " إن " مع معمولهما بدل من العذاب . قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية أي يرون أن القوة لله جميعاً . الثالث : بياء الغيبة وكسر " إن " و " إن " ومعناه كالأول ، والجملتان معترضتان . أو المعنى لقيل : إن القوة لله . والرابع : على هذا القياس . ودخول { لو } وكذا " إذا " في المستقبل مع " أن " حقهما الدخول على الماضي نظم للمستقبل في سلك الماضي المقطوع به لصدوره عمن لا خلاف في إخباره . وقيل : لأن الساعة قريب فكأنها قد وقعت .