فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادٗا يُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبّٗا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِذۡ يَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعٗا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعَذَابِ} (165)

لما فرغ سبحانه من الدليل على وحدانيته ، أخبر أن مع هذا الدليل الظاهر المفيد لعظيم سلطانه ، وجليل قدرته ، وتفرّده بالخلق ، قد وجد في الناس من يتخذ معه سبحانه ندّاً يعبده من الأصنام . وقد تقدّم تفسير الأنداد ، مع أن هؤلاء الكفار لم يقتصروا على مجرد عبادة الأنداد ، بل أحبوها حباً عظيماً ، وأفرطوا في ذلك إفراطاً بالغاً ، حتى صار حبهم لهذه الأوثان ، ونحوها متمكناً في صدورهم كتمكن حبّ المؤمنين لله سبحانه ، فالمصدر في قوله : { كَحُبّ الله } مضاف إلى المفعول ، والفاعل محذوف ، وهو المؤمنون . ويجوز أن يكون المراد : كحبهم لله ، أي : عبدة الأوثان ، قاله ابن كيسان ، والزجاج ، ويجوز أن يكون هذا المصدر من المبني للمجهول : أي : كما يُحَب الله . والأولى أولى لقوله : { والذين ءامَنُوا أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } فإنه استدرك لما يفيده التشبيه من التساوي ، أي : أن حبّ المؤمنين لله أشدّ من حبّ الكفار للأنداد ؛ لأن المؤمنين يخصون الله سبحانه بالعبادة ، والدعاء ، والكفار لا يخصون أصنامهم بذلك ، بل يشركون الله معهم ، ويعترفون بأنهم إنما يعبدون أصنامهم ؛ ليقرّبوهم إلى الله ، ويمكن أن يجعل هذا ، أعني قوله : { والذين ءامَنُوا أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } دليلاً على الثاني ؛ لأن المؤمنين إذا كانوا أشد حباً لله لم يكن حبّ الكفار للأنداد كحبّ المؤمنين لله ؛ وقيل : المراد بالأنداد هنا الرؤساء ، أي : يطيعونهم في معاصي الله ، ويقوى هذا الضمير في قلوبهم : { يُحِبُّونَهُمْ } فإنه لمن يعقل ، ويقوّيه أيضاً قوله سبحانه عقب ذلك : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } الآية . قوله : { وَلَوْ تَرَى الذين ظَلَمُوا } قراءة أهل مكة ، والكوفة ، وأبو عمر وبالياء التحتية ، وهو : اختيار أبي عبيد . وقراءة أهل المدينة ، وأهل الشام بالفوقية ، والمعنى على القراءة الأولى : لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة ؛ لعلموا حين يرونه أن القوّة لله جميعاً ، قاله أبو عبيد . قال النحاس : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير . انتهى . وعلى هذا ، فالرؤية هي : البصرية لا القلبية . وروي عن محمد بن يزيد المبرّد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ؛ لأنه يقدّر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ، فكأنه يجعله مشكوكاً فيه . وقد أوجبه الله تعالى ، ولكن التقدير ، وهو الأحسن : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله ، ويرى بمعنى يعلم ، أي : لو يعلمون حقيقة قوّة الله ، وشدّة عذابه . قال : وجواب لو محذوف : أي : لتبينوا ضرر اتخاذهم الآلهة كما حذف في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النار } [ الأنعام : 27 ] { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُوا على رَبّهِمْ } [ الأنام : 30 ] .

ومن قرأ بالفوقية ، فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب ، وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعاً . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ، ولكن خوطب بهذا الخطاب ، والمراد به أمته ، وقيل : " أن " في موضع نصب مفعول لأجله : أي : لأن القوّة لله ، كما قال الشاعر :

وأغفُر عوراءَ الكَرِيمِ ادّخارَه *** وأعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللئيم تكَرُّمَا

أي : لادّخاره ، والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب ؛ لأن القوّة لله لعلمت مبلغهم من النكال ، ودخلت " إذ " وهي لما مضى في إثبات هذه المستقبلات ، تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعه .

وقرأ ابن عامر : { إِذْ يَرَوْنَ } بضم الياء ، والباقون بفتحها . وقرأ الحسن ، ويعقوب ، وأبو جعفر : «إن القوّة » و «إن الله » بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف ، وعلى تقدير القول . قوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } بدل من قوله : { إِذْ يَرَوْنَ العذاب } ومعناه : أن السادة ، والرؤساء تبرءوا ممن اتبعهم على الكفر .

/خ167