قوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } . فالرفث كناية عن الجماع ، قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة ، والملامسة والإفضاء والدخول والرفث . فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء ، قال أهل التفسير : كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع ، إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها ، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ، ثم " إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، هذه الخطيئة ، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيب ، فسولت لي نفسي فجامعت أهلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت جديراً بذلك يا عمر " فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه . ( أحل لكم ليلة الصيام ) أي أبيح لكم ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم ) .
قوله تعالى : { هن لباس لكم ) أي سكن لكم .
قوله تعالى : { وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن ، دليله قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) وقيل : لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل : سمي كل واحد من الزوجين لباساً ، لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ، قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل : اللباس اسم لما يواري الشيء ، فيجوز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل ، كما جاء في الحديث : " من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه " .
قوله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } . أي تخونونها وتظلموها بالمجامعة بعد العشاء ، قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) .
قوله تعالى : { فتاب عليكم ) تجاوز عنكم .
قوله تعالى : { وعفا عنكم ) محا ذنوبكم .
قوله تعالى : { فالآن باشروهن } . جامعوهن حلالاً ، سميت المجامعة مباشرة لملاصقة بشرة كل واحد منهما صاحبه .
قوله تعالى : { وابتغوا ما كتب الله لكم } . أي فاطلبوا ما قضى الله لكم ، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد ، قاله أكثر المفسرين ، قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه . وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ ، وقال معاذ بن جبل : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني ليلة القدر .
قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض } . نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة ابن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمه ، وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن صرمة ، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم ، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر ، وقال لأهله قدمي الطعام ؟ فأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً سخيناً فأخذت تعمل له سخينة ، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب ، فلما فرغت من طعامه إذ هو به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله ، فأبى أن يأكل فأصبح صائماً مجهوداً ، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه ، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه قال له : يا أبا قيس مالك أصبحت طليحاً ؟ فذكر له حاله ، فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) .
قوله تعالى : { من الخيط الأسود } . يعني بياض النهار من سواد الليل ، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتداً كالخيط .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ، ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال : أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى بعده .
قوله تعالى : { من الفجر } . فعلموا أنما يعني بهما الليل والنهار .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا الحجاج بن منهال ، أخبرنا هشيم ، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن ، عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " .
قال وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت .
واعلم أن الفجر فجران . كاذب وصادق ، فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ، ينتشر سريعاً في الأفق ، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراح ، أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي ، أخبرنا هناد بن يوسف بن عيسى قال : أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ، ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " .
قوله تعالى : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } . فالصائم يحرم عليه الطعام ، والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان الثوري أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول : سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا ، وأدبر النهار من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .
قوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } . والعكوف ، هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع : هو الإقامة في المسجد على عبادة الله ، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد .
أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكفت أزواجه من بعده " . والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد ، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل ، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم ، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف ، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة ، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي ، كما لا يبطل به الحج ، وقالت طائفة : يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك ، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا ، كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قوله تعالى : { تلك حدود الله } . يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف ، حدود الله أي : ما منع الله عنها ، قال السدي : شروط الله ، وقال شهر بن حوشب : فرائض الله ، وأصل الحد في اللغة المنع ، ومنه يقال للبواب حداد ، لأنه يمنع الناس من الدخول ، وحدود الله ما منع الله من مخالفتها .
قوله تعالى : { فلا تقربوها } . فلا تأتوها .
قوله تعالى : { كذلك } . هكذا .
قوله تعالى : { يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } . لكي يتقوها فينجوا من العذاب .
انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فُصلت الجملة عن الجمل السابقة .
وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاماً مضطرباً غير مُبيّن فروى أبو داود عن معاذ بن جبل كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العِشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عُمر يريد امرأتْه فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعْتَلُّ فباشرها ، وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخنَ لك شيئاً فنام فجاءت امرأته فوجدته نائماً فقالت : خيبةً لك ، فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من صحيح البخاري { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالئن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } عن حديث البراء بن عاوب قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } الآية ، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكماً مشروعاً بالسُّنة ثم نسخ ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخاً لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى .
وما شرع الصوم إلاّ إمساكاً في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلاّ أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضاً مانعاً من الأكل والجماعِ إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلاّ الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في « صحيح مسلم » أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل هذا قد سرى إليْهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر ابن العربي في « العارضة » عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يَطْعَم لم يَطعم من الليل شيئاً فأنزل الله : { فالئن باشروهن } فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى : { علم الله } دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يُفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلاّ في حديث قيْس بن صِرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي .
فأَما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أولَ مرة يوماً في السنة ثم درَّجه فشرع الصوم شهراً على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفاً على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلاً ونهاراً فلا يبيح الفطر إلاّ ساعات قليلة من الليل .
ولَيْلةُ الصيام الليلةُ التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جرياً على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلاّ ليلةَ عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة .
والرَّفث في « الأساس » و« اللسان » أن حقيقته الكلام مع النساء في شؤون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء .
وقول : { هن لباس لكم } جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعُسر الاحتراز عن ذلك ، ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتاً ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار ؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : { هن لباس لكم } استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابَسَ الشيءُ الشيءَ ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريبٌ منها قول امرىء القيس :
* فسُلِّي ثيابي من ثيابكِ تَنْسِلِ *
و { تختانون } قال الراغب : « الاختيان مراودة الخيانة » بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تَخْتَوِنُون فصارت الواو ألِفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنَّ ذلك تعزيرٌ بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرماً عليكم فتُقْدِمُون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : { يخادعون } [ البقرة : 9 ] .
والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكَسب كما في « الكشاف » قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } [ النساء : 107 ] .
وقوله تعالى : { فالئن باشروهن } الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله { فالئن } إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم . والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضاً للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض .
عطف على { باشروهن } ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مِخْيَطٍ ، يقال خاط الثوب وخَيَّطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسوادُ الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :
فَلَمَّا أَضَاءَت لَنَا سَدْفَةٌ{[176]} *** ولاَحَ من الصُّبْح خَيْطٌ أَنَارَا .
وقوله : { من الفجر } منْ ابتدائية أي الشعاع الناشىء عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دُؤَاد « من الصبح » لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في « الكشاف » تشبيهاً بليغاً ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دُؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلاّ لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح .
وقد جيء في الغاية بحتى وبالتَّبَيُّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : { حتى يتبين } تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلاّ صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : { أتموا الصيام إلى الليل } بياناً لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : { ثم أتموا } ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل .
و { إلى الليل } غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل .
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجاً لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى .
بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف ( ثم ) للجمل .
هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرتُ له ذلك فقال رسول الله : إن وِسادَك لعَرِيض ، وفي رواية : إنك لعَرِيض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .
ورَوَيا عن سهل بن سعد قال نزلت : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولم ينزل { من الفجر } فكانَ رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأْكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ { من الفجر } ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبلِه بمدة طويلة ، فإن عَدِياً أَسلَمَ سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فُرض سنة اثنتين ولا يُعقل أن يبقَى المسلمون سبع أو ثمانيَ سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مُدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه مَن تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : { حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } الخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبلَ فَرْض رمضان أي صومِ عاشوراء أو صومِ النَّذْر وفي صوم التَّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها { من الفجر } علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حَدث مثل ذلك لعدي بن حاتم .
وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل { من الفجر } وقوله فأنزل الله بعد ذلك { مِن الفجر } مروياً بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في « الصحيحين » إلاّ من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : « فأنزل بعد أو بعدَ ذلك من الفجر » وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعدُ : { وكلوا واشربوا } إلى قوله { من الفجر } .
وأيّاً ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدمُ فهم بعضهم المرادَ منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أَشهر معاني الخيط وظَنوا أن قوله : { من الفجر } متعلق بفعل { يتبين } على أن تكون ( مِنْ ) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم « إنّ وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا » كناية عن قلة الفِطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام .
وقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون } عطف على قوله { باشروهن } لقصد أن يكون المعتكف صالحاً . وأجمعوا على أنه لا يكون إلاّ في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحْقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر .
تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام . فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيَّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : { حتى يتبين لكم الخيط } وقوله : { إلى الليل } { وأنتم عاكفون } من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : { أحل لكم } ومثل { فالئن باشروهن } .
والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث " وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها " وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تقربوها } .
وقوله : { فلا تقربوها } نهى عن مقاربتها الموقعةِ في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالباً كما قال تعالى : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الأنعام : 152 ] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] . كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه " .
والقول في : { كذلك يبين الله آياته للناس } تقدم نظيره في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع رياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : { لعلهم يتقون } ، أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذيم بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل { هل يستوى الذين يعلمون } [ الزمر : 9 ] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة .
{ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]. 77م-... قال مالك: ولا ينبغي أن يدخل الرجل في شيء من الأعمال الصالحة: الصلاة، والصيام، والحج، وما أشبه هذا من الأعمال الصالحة التي يتطوع بها الناس فيقطعه حتى يتمه على سنته: إذا كبر لم ينصرف حتى يصلي ركعتين وإذا صام لم يفطر حتى يتم صوم يومه وإذا أهل لم يرجع حتى يتم حجه، وإذا دخل في الطواف لم يقطعه حتى يتم سبوعه، ولا ينبغي أن يترك شيئا من هذا إذا دخل فيه حتى يقضيه إلا من أمر يعرض له مما يعرض للناس من الأسقام التي يعذرون بها والأمور التي يعذرون بها وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} فعليه إتمام الصيام كما قال الله. وقال الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} فلو أن رجلا أهل بالحج تطوعا وقد قضى الفريضة لم يكن له أن يترك الحج بعد أن دخل فيه ويرجع حلالا من الطريق، وكل أحد دخل في نافلة فعليه إتمامها إذا دخل فيها كما يتم الفريضة، وهذا أحسن ما سمعت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أُحِلّ لَكُمْ}: أطلق لكم وأبيح . {لَيْلَةَ الصّيَامِ}: في ليلة الصيام. فأما {الرفث}: فأنه كناية عن الجماع في هذا الموضع...
{هُنّ لِباسٌ لَكُمْ وأنْتُمْ لِباسٌ لَهُنّ}: نساؤكم لباس لكم، وأنتم لباس لهنّ. فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسا لنا ونحن لهن لباسا واللباس إنما هو ما لبس؟ قيل: لذلك وجهان من المعاني:
أحدهما أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسا، لتخرجهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما هو لباس لصاحبه،
والوجه الاَخر أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سَكَنٌ له، كما قال جل ثناؤه: {جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ لِباسا} يعني بذلك سكنا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيْهَا} فيكون كل واحد منهما لباسا لصاحبه، بمعنى سكونه إليه، وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.
وقد يقال لما ستر الشيء وواراه عن أبصار الناظرين إليه هو لباسه وغشاؤه، فجائز أن يكون قيل: هن لباس لكم، وأنتم لباس لهنّ، بمعنى أن كل واحد منكم ستر لصاحبه فيما يكون بينكم من الجماع عن أبصار سائر الناس...
{عَلِمَ اللّهُ أنّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فالاَنَ باشِرُوهُنّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم التي تاب الله منها عليهم فعفا عنهم؟ قيل: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين: أحدهما جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراما ذلك عليهم... عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني فقالت: حتى أجعل لك شيئا سخنا، قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت فلم يعذرها وظن أنها تعتلّ فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرا وبطنا، فأنزل الله في ذلك: {وكُلُوا واشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنِ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر} وقال: {فَالاَنَ باشِرُوهُنّ} فعفا الله عن ذلك. وكانت سنة... عن البراء، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وكان توجه ذلك اليوم فعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه هذه الآية: {أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيامِ الرّفَثُ إلى نِسائِكُمْ} إلى: مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ ففرحوا بها فرحا شديدا...
فأما المباشرة في كلام العرب: فإنه ملاقاة بشرة ببشرة، وبشرة الرجل: جلدته الظاهرة. وإنما كنى الله بقوله:"فالآنَ باشِرُوهُنّ" عن الجماع: يقول: فالاَن إذ أحللت لكم الرفث إلى نسائكم فجامعوهنّ في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهي تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر...
واختلفوا في تأويل قوله "وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ"؛
وقال بعضهم: معنى ذلك ليلة القدر.
وقال آخرون: بل معناه: ما أحلّه الله لكم ورخصه لكم.
والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال: وَابْتَغُوا بمعنى: اطلبوا ما كتب الله لكم، يعني الذي قضى الله تعالى لكم. وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبت لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح فيطلق لكم وطلب الولد إن طلبه الرجل بجماعه المرأة مما كتب الله له في اللوح المحفوظ، وكذلك إن طلب ليلة القدر، فهو مما كتب الله له، وكذلك إن طلب ما أحلّ الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.
وقد يدخل في قوله: {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ} جميع معاني الخير المطلوبة، غير أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال معناه: وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد لأنه عقيب قوله: "فالاَنَ باشِرُوهنّ "بمعنى: جامعوهنّ فلأن يكون قوله: "وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ" بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهنّ من الولد والنسل أشبه بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم...
[و] اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {حَتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ}...
فقال بعضهم: يعني بقوله: الخيط الأبيض: ضوء النهار. وبقوله: الخيط الأسود: سواد الليل. فتأويله على قول قائل هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صومكم، واشربوا، وباشروا نساءكم، مبتغين ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده... حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد، عن سعيد، عن عامر، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام، ونعت لي الصلوات، كيف أصلي كل صلاة لوقتها، ثم قال: «إذا جَاءَ رَمَضانُ فَكُلْ واشْرَبْ حتى يَتَبَيّنَ لك الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ، ثُمّ أتِمّ الصّيَامَ إلى الليلِ»، ولم أدر ما هو، ففتلت خيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواء. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت، غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود، قال: «وَمَا مَنَعَكَ يا ابنَ حاتمٍ؟» وتبسم كأنه قد علم ما فعلت. قلت: فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نواجذه، ثم قال: «ألَمْ أقُلْ لَكَ مِنَ الفَجْرِ؟ إنمَا هُوَ ضَوْءُ النهَارِ وَظُلْمَةُ اللّيْلِ»... وقال متأولو قول الله تعالى ذكره: "حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ": أنه بياض النهار وسواد الليل، صفة ذلك البياض أن يكون منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءه الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله: الخَيْط الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَمْنَعْكُمْ مِنَ سُحْورِكُمْ أذَانُ بِلالٍ وَلا الفَجْرُ المُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الفَجْرُ المُسْتَطِيرُ فِي الأُفُقِ».
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام الأسدي، قال: حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول: «لا يَغُرّنّكُمْ نِدَاءُ بِلالٍ وَلا هَذَا البَياضُ حتّى يَبْدُوَ الفَجْرُ وَيَنفَجِرَ.
وقال آخرون: الخيط الأبيض: هو ضوء الشمس، والخيط الأسود: هو سواد الليل... عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أما رجل يريد أن يصوم فلا. قال: لكني، قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحر؟ قال: قلنا أما من يريد الصوم فلا. قال: لكنّي، ثم نزل فتسحّر، ثم صلى... وعلة من قال هذا القول أن الوقت إنما هو النهار دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوع الشمس، كما أن آخره غروبها. قالوا: ولو كان أوله طلوع الفجر لوجب أن يكون آخره غروب الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أن آخر النهار غروب الشمس دليل واضح، على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر أوضح الدليل على صحة قولنا.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحرتَ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
وأولى التأويلين بالآية؛ التأويل الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «الخَيْطُ الأبْيَضُ: بَياضُ النهارِ، والخَيْطُ الأسْوَدُ: سَوَادُ اللّيْلِ» وهو المعروف في كلام العرب...
وفي قوله تعالى ذكره: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا حتّى يَتَبَيّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمّ أتمّوا الصّيَامَ إلى اللّيْلِ}،أوضح الدلالة على خطأ قول من قال: حلال الأكل والشرب لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدّا لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة...
وأما {الفجر}، فإنه مصدر من قول القائل: تفجر الماء يتفجر فجرا: إذا انبعث وجرى، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس فجر، لانبعاث ضوئه عليهم وتورّده عليهم بطرقهم ومحاجهم تفجر الماء المنفجر من منبعه...
وأما قوله: {ثُمّ أتِمُوا الصيّامَ إلى اللّيْلِ} فإنه تعالى ذكره حدّ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل، كما حدّ الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل، فدل بذلك على أن لا صوم بالليل كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم، وعلى أن المواصل مجوّع نفسه في غير طاعة ربه...
فتأول الآية إذن: ثم أتموا الكفّ عما أمركم الله بالكفّ عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل، ثم حلّ لكم ذلك بعده إلى مثل ذلك الوقت...
"وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِد": وَلا تُباشِرُوهُنّ لا تجامعوا نساءكم.
"وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ": في حال عكوفكم في المساجد، وتلك حال حبسهم أنفسهم على عبادة الله في مساجدهم. والعكوف أصله المقام، وحبس النفس على الشيء...
وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة التي عنى الله بقوله: "وَلا تُباشِرُوهُنّ"؛
فقال بعضهم: معنى ذلك الجماع دون غيره من معاني المباشرة... عن ابن عباس في قوله: "وَلا تُباشِرُوهُنّ وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ"؛ في رمضان أو في غير رمضان، فحرم الله أن ينكح النساء ليلاً ونهارا حتى يقضي اعتكافه.
وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني المباشرة من لمس وقبلة وجماع... وعلة من قال هذا القول، أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة ولم يخصص منها شيئا دون شيء فذلك على ما عمه حتى تأتي حجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرة دون مباشرة.
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك الجماع أو ما قام مقام الجماع مما أوجب غسلاً إيجابه، وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين: إما من جعل حكم الآية عاما، أو جعل حكمها في خاصّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف، فلما صحّ ذلك عنه، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة البعض دون الجميع.
حدثنا عليّ بن شعيب، قال: حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال: أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يدني إليّ رأسه فأرجّله».
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة أن عائشة قالت: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يُدخل عليّ رأسه وهو في المسجد فأرجّله».
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدني إليّ رأسه وهو مجاور في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرجله».
فإذا كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله: "وَلا تُباشِروهُن وأنْتُمْ عاكِفُونَ فِي المَساجِدِ" غير جميع ما لزمه اسم المباشرة وأنه معنيّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمعا على أن الجماع مما عنى به كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كل ما قام في الالتذاذ مقامه من المباشرة.
"تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلا تَقْرَبُوها": هذه الأشياء التي بينتها من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد.
يقول: هذه الأشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها وحرّمتها فيها عليكم، فلا تقربوها وابعدوا منها أن تركبوها، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي وخالف أمري وركب معاصيّ.
وكان بعض أهل التأويل يقول: حدود الله: شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غير أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة، وذلك أن حدّ كل شيء ما حصره من المعاني وميز بينه وبين غيره، فقوله: تِلْكَ حُدوُدُ اللّهِ من ذلك، يعني به المحارم التي ميزها من الحلال المطلق فحددها بنعوتها وصفاتها وعرّفها عباده.
وقال بعضهم: حدود الله: معاصيه.
"كَذِلَكَ يُبَيّنُ اللّهُ آياتِهِ للنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتّقُون": كما بينت لكم أيها الناس واجب فرائضي عليكم من الصوم، وعرّفتكم حدوده وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميع ذلك لكم، فكذلك أبين أحكامي وحلالي وحرامي وحدودي ونهيي في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسولي وصلى الله عليه وسلم للناس.
"ولَعَلَهُمْ يَتَقُونَ": أبين ذلك لهم ليتقوا محارمي ومعاصيّ، ويتجنبوا سخطي وغضبي بتركهم ركوب ما أبين لهم في آياتي أني قد حرمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} أي ما حرم، وفي تسميتها حدود الله وجهان:
أحدهما: لأن الله تعالى حدها بالذكر والبيان.
والثاني: لما أوجبه في أكثر المحرمات من الحدود.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} فيه وجهان:
أحدهما: يعني بآياته علامات متعبداته.
والثاني: أنه يريد بالآيات هنا الفرائض والأحكام...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله {وكلوا واشربوا} إباحة للأكل والشرب.
{حتى يتبين}: يظهر، والتبين: تميز الشيء الذي يظهر للنفس على التحقيق.
{الخيط الأبيض من الخيط الأسود}: بياض الفجر من سواد الليل [و هو قول] أكثر المفسرين... وعليه جميع الفقهاء، لا خلاف فيه بين الأمة اليوم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قيل: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} مع قوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229]؟ قلت: من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الباطل، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحدّ الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل لئلا يداني الباطل، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلاً عن أن يتخطاه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنّ لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد. ويجوز أن يريد بحدود الله محارمه ومناهيه خصوصاً، لقوله: {وَلاَ تباشروهن} وهي حدود لا تقرب.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
رَوَى الْأَئِمَّةُ: الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، عَن الْبَرَاءِ: «أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَأَنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنِّي أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ، وَكَانَ يَعْمَلُ يَوْمَهُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَدْ نَامَ قَالَتْ: خَيْبَةً لَك؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ}، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فتاب عليكم}: قال الحرالي: ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم فعذرهم بعلمه فيهم ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب "التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع اليمن في الطائفتين، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه، وكذلك حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله، فتفشو فيها المخالفة لذلك، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم...
[و] كان صلى الله عليه وسلم يأمر الشجاع بالحرب ويكف الجبان عنه، حتى لا تظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه وأوفق لخلقه وخلقه، ففيه أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى سمعت أن فارس و الروم يصنعون ذلك فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً "لتجري الأحكام على ما يوافق الجبلات وطباع الأمم لكونه رسولاً إلى الناس كافة على اختلاف طباعهم، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات هذا الأصل العلي الذي أجرى الله سبحانه وتعالى الحكم فيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على وفق ما تستقر فيه أمانتهم وتندفع عنهم خيانتهم...
فإذا حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته حتى ثبت معناه للأكل ليلاً ونهاراً، قال صلى الله عليه وسلم:"من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر "وقال صلى الله عليه وسلم:"ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر "وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم: أنا صائم، ثم يرى يأكل من وقته فيقال له في ذلك فيقول: قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر، فأنا صائم في فضل الله مفطر في ضيافة الله، كل ذلك اعتداد من أهل الأحلام والنُّهى بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.
{فتاب} الله {عليكم} بأن وسع لكم أمرا كان -لولا توسعته- موجبا للإثم {وعفا عنكم} ما سلف من التخون.
{فالآن} بعد هذه الرخصة والسعة من الله {باشروهن} وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك.
{وابتغوا ما كتب الله لكم} أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح.
ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك.
{وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه.
وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق.
{ثم} إذا طلع الفجر {أتموا الصيام} أي: الإمساك عن المفطرات {إلى الليل} وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد.
ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف.
{تلك} المذكورات -وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات {حدود الله} التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: {فلا تقربوها} أبلغ من قوله:"فلا تفعلوها" لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه.
والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} فينهى عن مجاوزتها.
{كذلك} أي: بيَّن الله لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح.
{يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والرفث مقدمات المباشرة، أو المباشرة ذاتها، وكلاهما مقصود هنا ومباح.. ولكن القرآن لا يمر على هذا المعنى دون لمسة حانية رفافة، تمنح العلاقة الزوجية شفافية ورفقا ونداوة، وتنأى بها عن غلظ المعنى الحيواني وعرامته، وتوقظ معنى الستر في تيسير هذه العلاقة: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}..
واللباس ساتر وواق.. وكذلك هذه الصلة بين الزوجين. تستر كلا منهما وتقيه.
والإسلام الذي يأخذ هذا الكائن الإنساني بواقعه كله، ويرتضي تكوينه وفطرته كما هي، ويأخذ بيده إلى معارج الارتفاع بكليته.. [هذا هو] الإسلام وهذه نظرته يلبي دفعة اللحم والدم. وينسم عليها هذه النسمة اللطيفة، ويدثرها بها الدثار اللطيف.. في آن.. ويكشف... عن خبيئة [المشاعر]، وهو يكشف... عن رحمته بالاستجابة لهواتف [الفطرة]: (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم. فتاب عليكم وعفا عنكم).. وهذه الخيانة [للأنفس] التي يحدث عنها، تتمثل في الهواتف الحبيسة، والرغبات المكبوتة؛ أو تتمثل في الفعل ذاته،
وقد ورد أن بعضهم أتاه.. وفي كلتا الحالتين لقد تاب عليهم وعفا عنهم، مذ ظهر ضعفهم وعلمه الله منهم.. فأباح لهم ما كانوا يختانون فيه أنفسهم:...
{فالآن باشروهن}.. ولكن هذه الإباحة لا تمضي دون أن تربط بالله، ودون توجيه النفوس في هذا النشاط لله أيضا: {وابتغوا ما كتب الله لكم}... ابتغوا هذا الذي كتبه الله لكم من المتعة بالنساء، ومن المتعة بالذرية، ثمرة المباشرة. فكلتاهما من أمر الله، ومن المتاع الذي أعطاكم إياه، ومن إباحتها وإتاحتها يباح لكم طلبها وابتغاؤها. وهي موصولة بالله فهي من عطاياه. ومن ورائها حكمة، ولها في حسابه غاية. فليست إذن مجرد اندفاع حيواني موصول بالجسد، منفصل عن ذلك الأفق الأعلى الذي يتجه إليه كل نشاط... بهذا ترتبط المباشرة بين الزوجين بغاية أكبر منهما، وأفق أرفع من الأرض ومن لحظة اللذة بينهما. وبهذا تنظف هذه العلاقة وترق وترقى..
ومن مراجعة مثل هذه الإيحاءات في التوجيه القرآني وفي التصور الإسلامي ندرك قيمة الجهد المثمر الحكيم الذي يبذل لترقية هذه البشرية وتطويرها، في حدود فطرتها وطاقتها وطبيعة تكوينها. وهذا هو المنهج الإسلامي للتربية والاستعلاء والنماء. المنهج الخارج من يد الخالق. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير... وكذلك تلوح التقوى غاية يبين الله آياته للناس ليبلغوها، وهي غاية كبيرة يدرك قيمتها الذين آمنوا، المخاطبون بهذا القرآن في كل حين...
بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء ومزجها وأدخلها في الصوم، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تخاطب كل الملكات الإنسانية، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا...
[و] كلمة {تختانون أنفسكم)} هذه تعلمنا أن الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج، فعندما تركك تختان نفسك، ثم أنزل لك الترخيص، هنا تشعر بفضل الله عليك. إذن فبعض الرخص التي يرخص الله لعباده في التكاليف: رخصة تأتي مع التشريع، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع، لينبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
[والملاحظ أن التقوى ذكرت]... في أوّل آية ترتبط بأحكام الصوم ورد ذكر التقوى على أنها الهدف النهائي للصوم، وفي آخر آية أيضاً وردت عبارة (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وهذا يؤكد أن كل مناهج الإِسلام وسيلة لتربية الروح والتقوى والفضيلة والإِرادة والإِحساس بالمسؤولية...