تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أُحِلَّ لَكُمۡ لَيۡلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمۡۚ هُنَّ لِبَاسٞ لَّكُمۡ وَأَنتُمۡ لِبَاسٞ لَّهُنَّۗ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمۡ كُنتُمۡ تَخۡتَانُونَ أَنفُسَكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡ وَعَفَا عَنكُمۡۖ فَٱلۡـَٰٔنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبۡتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلۡخَيۡطُ ٱلۡأَبۡيَضُ مِنَ ٱلۡخَيۡطِ ٱلۡأَسۡوَدِ مِنَ ٱلۡفَجۡرِۖ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ وَلَا تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمۡ عَٰكِفُونَ فِي ٱلۡمَسَٰجِدِۗ تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَقۡرَبُوهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (187)

الآية 187 وقوله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام ) سماه ( ليلة الصيام ) : الليل مضاف إلى يومه ؛ كأنه قال : ليلة يوم الصوم ، وإن لم يكن فيها صوم في الحقيقة لانتظام الصيام فيها بالنهار ، على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال : " منتظر الصلاة ما دام ينتظر فهو في الصلاة " [ بنحوه مسلم 649/274 المساجد ] ، وكذلك قوله : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) [ البقرة : 185 ] أضاف الصوم إلى الشهر ، يدخل فيه الليل والنهار ، لأن اسم الشهر يجمع الليل والنهار جميعا .

وقوله : ( الرفث إلى نسائكم ) ؛ قيل : ( الرفث ) الجماع ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وقيل : ( الرفث ) هو حاجات الرجال إلى النساء من نحو الجماع والمس والتقبيل وغيره .

وقوله : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ؛ قيل : هن ستر لكم عما لا يحل ، وأنتم ستر لهن أيضا ؛ يعف الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، وقيل : [ ( هن ) ]{[2198]} سكن لكم ( وأنتم ) سكن لهن ؛ يسكن الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج ، وهو كقوله : ( وجعلنا الليل لباسا ) [ النبأ : 10 ] أي سكنا . [ وكقوله ]{[2199]} : ( الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ) [ غافر : 61 ] ، ويحتمل أن يكون أحدهما لباس الآخر بالليالي ، والله أعلم .

وقوله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) : ( تختانون ) وتخونون واحد ؛ قيل : نزلت الآية في شأن عمر رضي الله عنه وذلك أن الناس إذا صاموا ، ثم نام أحد منهم ، حرم عليه الطعام والجماع حتى يفطر من الغد ، فواقع عمر رضي الله عنه امرأته يوما بعد ما نام ، أو نامت ، فغدا [ إلى ]{[2200]} رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فنزل قوله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) أي تظلمون لأن كل خائن ظالم نفسه ( فتاب عليكم وعفا عنكم ) فتاب الله عليه ، وعفا عنه ، ثم رخص لهم المباشرة بقوله : ( فالآن باشروهن ) على الرخصة ، هو على الإباحة لا على الأمر به .

وقوله : ( وابتغوا ) أي اتبعوا{[2201]} ( ما كتب الله لكم ) ؛ قيل فيه بوجوه : قيل : ( ما كتب الله لكم ) من الولد ، وقيل : ( ما كتب الله لكم ) من ليلة القدر ، وما فيه من نزول الرحمة ، وقيل : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) من الرخصة والإباحة في الجماع في ليلة الصيام ، والأكل بعد النوم ، وهو كما جاءك " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا " [ بنحوه الطبراني في الكبير 11880 ] .

وقوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) . ذكر عن عدي بن حاتم أنه قال : " كنت أضع خيطين تحت وسادتي بعد نزول هذه الآية ، أحدهما أبيض ، والآخر أسود ، فكنت أنظر فيه متى ما تبين لي إلى أن أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته " فقال : " إن وسادتك لعريض " [ البخاري : 4511 ] يعني أن الفجر هو المعترض في الأفق . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ]{[2202]} قال : " لا يغرنكم الفجر المستطيل إنما الفجر المستطير في الأفق " [ الترمذي : 706 ] ، وروي أنه قال : " الفجر فجران : فجر مستطيل في السماء وفجر مستطير في الأفق " [ الترمذي : 706 ] ، وروي أنه قال : " الفجر فجران : فجر مستطيل في السماء وفجر مستطير في الأفق ، فهو الذي يحرم الطعام على الصائم ويحل الصلاة " [ الدارقطني : 1041 ] وروي أنه قال : " لا يغرنكم أذان بلال ؛ فإنه إنما يؤذن بالليل ليوقظ نائمكم ، ويرجع قائمكم " [ البخاري : 5298 ] ، وفي بعض الأخبار قال : " لا يغرنكم آذان بلال عن سحوركم{[2203]} ؛ فإنه إنما يؤذن بليل " [ البخاري : 5298 ] أو كلام نحو هذا .

والأصل في هذا : أن الله عز وجل جعل الصيام من وقت تبين وقت النهار إلى وقت غيبوبة الشمس : [ الامتناع عن ]{[2204]} : الطعام والشراب والجماع تحقيقا منه .

وقوله : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) ، [ وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة ؛ ]{[2205]} قيل المباشرة عنى [ الله به الجماع وما دون الجماع ]{[2206]} ، فإنما /29-ب/ نهوا عنها ، وقيل : المباشرة كناية عن الجماع .

ثم قوله : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) فيه أدلة من أوجه : الآية كأنها نزلت في [ ما ]{[2207]} بلوا بها ، لا أن كانوا يباشرون نساءهم في المساجد لأن المساجد كانت أجل عندهم من أن يجعلوها مكانا لوطء النساء . ولكنه ، والله أعلم : أن الاعتكاف : هو اللبث في مكان يأخذ الحق في نفسه عند عكوفه المسجد وخروجه منه ، فذكر أن العكوف نفسه يحرم الجماع في الأحوال كلها ، ليس كالصوم يحرم حالا دون حال في الوقت الذي لم يكونوا فيها ليعلموا أن حكم المقام في المساجد أخذ لهم ، وليسوا هم فيها . ولو لم يكن شرطا في ذلك لكان قوله : ( وأنتم عاكفون ) كافيا إذ لم يكونوا في المساجد وقت لحوق النهي للمباشرة{[2208]} ، والله أعلم .

وفيه دليل أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد حيث خص المساجد دون غيرها من الأمكنة ، وفيه دليل أن المعتكف قد يخرج من معتكفه ، لكنه لا يخرج إلا لما لا بد منه على ما جاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كان لا يخرج إلا لحاجة إنسان " [ البخاري : 2029 ] وحاجة الإنسان تحتمل وجهين : تحتمل لما يرفع إليه من الحوائج ، وتحتمل حاجة الإنسان ، الحاجة المعروفة التي لا يحتمل قضاؤها في المسجد .

ثم الضرورة تقع بالخروج في العكوف بوجهين : مرة في نفسه ، ومرة في أفعال يكتسبها . وبهذا يقول أصحابنا ، رحمهم الله تعالى ، في فرضية الخروج إلى الجمع لأن من اعتكف على ألا يشهد الجمعة لا يؤذن له في ذلك لما لا جائز أن يؤذن بإيجاب قربة ، هي ليست عليه بتضييع أخرى هي عليه ، لذلك كان ما ذكرنا . فإن قيل : روي أنه كان لاتباع الجنازة وعيادة المريض ، قيل : إن ثبت هذا ، فهو إذ خرج لوجه إذن بالخروج ، فخرج ، ثم عاد مريضا ، أو شهد جنازة ، وذلك جائز ، ولو كان يؤذن لذلك لكان{[2209]} يؤذن لكل قربة ، إذ الجنازة إذا شيعها الكافي سقط فرض التشييع ، فإذن {[2210]} لم يؤذن في غير هذا ، وهذا مثل ذلك أو دونه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي ذلك دليل أن الخبر على ما بينت ، والله أعلم .

وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( من السنة ألا يخرج المعتكف من معتكفه ) دل هذا من عائشة رضي الله عنها أن خبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ما ذكرنا ، إن ثبت . وفي قوله : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) دليل أن الاعتكاف يكون في جميع المساجد لأنه عم المساجد . وما روي : أن لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ، إن ثبت ، فهو على التناسخ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في مسجد المدينة ، فدل فعله أنه منسوخ ، والله أعلم .

وقوله : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) قيل : ( تلك ) المباشرة معصية ( فلا تقربوها ) في الاعتكاف ، فحد الأمر ألا تقربوها ، وقيل : إنه جعل لكل طاعة وأمر ونهي حدا وغاية ، فلا يجاوز ، ولا يقصر عنه ، وقيل : ( تلك ) فرائض الله ، وقيل : ( تلك ) سنن الله ، وكان الأول أقرب .


[2198]:- من ط ع.
[2199]:- في الأصل و م: و، ساقطة من ط ع.
[2200]:- من م و ط ع، ساقطة من الأصل.
[2201]:- من ط ع، في الأصل و م: اتبغوا.
[2202]:- من ط ع.
[2203]:- من ط ع، في الأصل و م: سحركم.
[2204]:- في ط ع: إلى وقت تبين لنار÷ ساقطة من الأصل و م.
[2205]:- من ط ع، في الأصل و م: اختلف في المباشرة.
[2206]:- من ط ع، في الأصل: به الجماع، في م: به الجماع وما دون الجماع.
[2207]:- ساقطة من النسخ الثلاث.
[2208]:- من م و ط ع، في الأصل: المباشرة.
[2209]:- في النسخ الثلاث: لمكان.
[2210]:- في النسخ الثلاث: فإذا.