قوله عز وجل : { أحل لكم } الآية جمهور المفسرين على أنها ناسخة لما عليه الناس في أول الإسلام . روي عن ابن عباس أنه لما نزلت { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } كانوا إذا صلوا العتمة حرم عليهم الطعام والشراب وصاموا إلى القابلة ، فاختان رجل فجامع امرأته وقد صلى العشاء ولم يفطر ، فأراد الله أن يجعل ذلك تيسيراً لمن بقي ورخصة ومنفعة . وعن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ويومه حتى يمسي . وقال : إن قيس بن صرمة الأنصاري ، أو صرمة بن قيس ، أو قيس بن عمرو - على اختلاف الروايات - كان صائماً . فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : أعندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ، فلما انتصف النهار غشي عليه . فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { أحل لكم } ففرحوا بها فرحاً شديداً ، وأبو مسلم خالف الجمهور بناء على مذهبه من أنه لم يقع في القرآن نسخ ألبتة . احتج الجمهور بوجوه منها . أنه تعالى شبه إيجاب الصوم على هذه الأمة بإيجابه على من قبلهم ، فيلزم منه حرمة الأكل والشرب والوقاع بعد النوم في شرعنا كما كانت في شرعهم . وإذا كانت الحرمة ثابتة فهذه الآية رافعة لها ناسخة لحكمها . ومنع أبو مسلم من أن مقتضى التشبيه حصول المشابهة في كل الأمور ، فلعلهم إنما كانوا يمتنعون من الأكل والشرب والوقاع اعتقاداً منهم ببقاء تلك الحرمة في شرعنا كما هي في شرع من قبلنا مع جواز كونها مباحة في نفس الأمر . ومع قيام هذا الاحتمال فلا جزم بالنسخ ومنها قوله تعالى { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } ولو كان ذلك حلالاً لم ينسبوا إلى الخيانة ، قيل : إن عمر رضي الله عنه واقع أهله بعد صلاة العشاء الآخرة ، فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة وأخبره بما فعل . فقال صلى الله عليه وسلم : ما كنت جديراً بذلك يا عمر . فقام رجال فاعترفوا بما كانوا صنعوا بعد العشاء فنزلت . قال أبو مسلم : أصل الخيانة النقص . وخان واختان وتخوّن بمعنى واحد مثل كسب واكتسب وتكسب . والمعنى علم الله أنكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من اللذات لا من الثواب والخير . ومنها قوله { فتاب عليكم وعفا عنكم } والتوبة والعفو يكونان بعد المعصية وارتكاب ما هو محرم . قال أبو مسلم : التوبة من العباد الرجوع إلى الله بالعبادة ، ومن الله الرجوع إلى العبد بالرحمة والإحسان . والعفو التسهيل والتوسعة والتخفيف . قال صلى الله عليه وسلم " عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهماً درهم " وقال " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " والمراد التخفيف بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت . ويقال : أتاني هذا المال عفواً أي سهلاً . فالمعنى عاد عليكم بالرحمة وسع عليكم بإباحة هذه الأشياء المحرمة على الذين من قبلكم . وأما الروايات فأخبار آحاد لا يوجب شيء منها حمل القرآن على النسخ . ولنشتغل بتفسير الألفاظ فنقول : ليلة الصيام قال الواحدي : أراد ليالي الصوم ، فوضع الواحد موضع الجمع . ويمكن أن يقال : أضاف الليلة إلى هذه الحقيقة فتتناول الكل من غير تكلف . والرفث الجماع . والرفث أيضاً الفحش من القول وكلام النساء في الجماع . وقيل لابن عباس . حين أنشد :
وهن يمشين بنا هميسا *** إن تصدق الطير ننك لميسا
أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إنما الرفث ما واجه به النساء . هميساً أي مشياً ليناً ، ولميس اسم امرأة أي أن يصدق الفأل ننكها . وقال أبو علي : معناه الفرج . ويقال : جامع الرجل أو ناك . فإذا أردت الكناية عن هذه العبارة قلت : رفث الرجل . وإنما كني عنه ههنا بلفظ الرفث الدال على معنى القبح ولم يعبر عنه بالإفضاء أو الغشيان أو المس ونحوها كما في مواضع آخر { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ]
{ فلما تغشاها } [ الأعراف : 189 ] { باشروهن } [ البقرة : 187 ] { من قبل أن تمسوهن }
[ البقرة : 237 ] { أولمستم النساء } [ النساء : 43 ] وفي قوله : { دخلتم بهن } [ النساء : 23 ]
{ فأتوا حرثكم } [ البقرة : 223 ] { فما استمعتم به منهن } [ النساء : 24 ]{ ولا تقربوهنّ }
[ البقرة : 222 ] حتى استهجان لما وجد منهم قبل الإباحة ، أو البيان كما سماه اختياناً لأنفسهم . قال الأخفش إنما عدي الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21 ] .
{ هن لباس لكم } وجه التشبيه أنهما يعتنقان فينضم جسد أحدهما إلى جسد صاحبه ويشتمل عليه كالثوب . قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن . وقال ابن زيد : كل منهما يستر صاحبه عن الأبصار عند الجماع . قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها *** تثنت فكانت عليه لباساً
أو سميا لباساً لستر كل منهما صاحبه عما لا يحل كما في الخبر " من تزوّج فقد أحرز ثلثي دينه " أو المراد تستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت لو لم تكن المرأة حاضرة كما يتستر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار . وعن الأصم : أن كل واحد منهما كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي كانوا يفعلونه ، وزيف بأن هذه القرينة واردة في معرض الإنعام لا في مقام الذم . ووحد اللباس إما لأنه جنس وإما لأنه مصدر " لابس " وضع موضع الصفة . وموقع قوله { هنّ لباس لكم } استئناف لأنه كالبيان لسبب الإحلال ، فإن مثل هذه المخالطة والملابسة توجب قلة الصبر عنهن . ومعنى { علم الله } ظهر معلومه أو هو عالم ، ولم يذكر في الآية أن الخيانة في ماذا إلا أن الذي تقدم هو ذكر الجماع والذي تأخر هو مثله بدليل { فالآن باشروهن } فتعين أن يكون المراد به الخيانة في الجماع .
ومن المعلوم أن كل واحد منهم لم يختن فالخطاب لبعضهم ، وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه لأنه جلب إليها العقاب ونقص حظها من الثواب . وقيل : إن الآية لا تدل على وقوع الخيانة منهم ، وإنما المراد علم الله أنكم بحيث لو دام هذا التكليف تختانون أنفسكم فضعفكم وقلة صبركم ، فوسع الأمر عليكم حتى لا تقعوا في الخيانة . { فتاب عليكم } من الفاء الفصيحة أي فتبتم فقبل توبتكم . وعلى قول أبي مسلم لا إضمار . { فالآن باشروهن } تأكيد لقوله { أحل لكم } وفيه ضرب من البيان لأن حل الرفث في ليلة الصيام لا يوجب حله في جميع أجزائها حتى الصباح . والجمهور على أن المراد بالمباشرة ههنا الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين فيه . ومنه ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال " لا يباشر الرجل الرجل والمرأة المرأة " وإنما قلنا إن المراد بها الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث أريد به ذلك إلا أن إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه فصح ما نقل عن الأصم أن المراد بها الجماع وغيره ورجع النزاع لفظياً . وأما المباشرة في قوله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فلا يعود النزاع فيها إلى اللفظ ، لأن المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه من الاستمتاعات . { وابتغوا ما كتب الله لكم } جعل أو قضى أو كتب في اللوح من الولد أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ولكن للغرض الأصلي من النكاح وهو التناسل . قال صلى الله عليه وسلم " تناكحوا تكثروا " وقيل : هو نهي عن العزل فقد وردت الأخبار في كراهية ذلك . وعن الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ، ولا بأس أن يعزل عن الأمة . وعن علي كرم الله وجهه : أنه كان يكره العزل . وقيل : اطلبوا المحل الذي حلله الله لكم كقوله تعالى
{ فأتوهنّ من حيث أمركم الله } [ البقرة : 222 ] وقيل : وابتغوا هذه المباشرة التي كتب الله لكم بعد أن كانت محرمة عليكم ، وعن أبي مسلم : وابتغوا المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنون أنها محرّمة عليكم . وقيل : يعني لا تباشروهن إلا في الأوقات والأحوال التي أذن الله لكم في مباشرتهن دون أوقات الحيض والنفاس والعدّة والردة . وقيل : أي لا تبتغوا المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة وهو الذي كتب في القرآن من قوله { إلا على أزواجهم أن ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] وعن معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها . واستبعده بعضهم وليس ببعيد ، فإن توزع الفكر بسبب الشهوة المشوّشة قد يمنع عن الإخلاص في العبودية ولا يتفرغ المكلف حينئذ لطلب ليلة القدر التي هي حاصل صوم رمضان فقال سبحانه { فالآن باشروهن } لتفرغوا لطلب الغاية من صيامكم والله أعلم بمراده ، عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } عمدت إلى عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وجعلت أنظر إليهما من الليل ولا يستبين لي ، فإذا تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت . فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك وقال : إنك لعريض القفا إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل . وكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن بلاهة عديّ وقلة فطنته ، وفي الصحيحين أيضاً عن سهل بن سعد : نزلت ولم ينزل { من الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله عز وجل بعد { من الفجر } فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار .
واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره عن وقت الخطاب فجائز عند الأكثرين . ولما كان من مستعملات العرب إطلاق الخيط الأبيض على أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود ، والخيط الأسود على ما يمتد معه من غبس الليل قال أبو دواد :
فلما أضاءت لنا سدفة *** ولاح من الصبح خيط أنارا
والسدفة الضياء المخلوط بالظلام ، اقتصر على الاستعارة أوّلاً ، ثم لما اشتبه الأمر على بعض من لا دراية له باللغة العربية نزل من الفجر بياناً للخيط الأبيض واستغنى به عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحدهما يستتبع بيان الآخر . وخرج الكلام من الاستعارة إلى التشبيه البليغ كما أن قولك " رأيت أسداً " مجاز ، فإذا زدت " من فلانٍ " رجع تشبهاً . فالاستعارة وإن كانت أبلغ من التشبيه وأدخل في الفصاحة من حيث إنها استعارة كما بين في موضعه إلا أن رفع الاشتباه عن المكلفين أهم وأولى . فالفصاحة في هذا المقام ترك الاستعارة ، وليس هذا من باب تأخير البيان عن وقت الحاجة على الإطلاق ، لأن المحتاجين ههنا إلى البيان ساقطون عن درجة الاعتبار لأن فهم المعنى من اللفظ إنما يعتبر بالنسبة إلى العارف بقوانين العرب واستعمالاتهم لا بالإضافة إلى الأغبياء منهم . نعم التفهيم يعم البليد والذكي والله المستعان . ولا يسبقنّ إلى الوهم أن المشبه بالخيط الأبيض هو الصبح الكاذب المستطيل لأنه يناقض ما ورد في الخبر " لا يغرنكم الفجر المستطيل فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير " وإنما المشبه هو الفجر الصادق ، وهو أيضاً يبدو دقيقاً ولكن يرتفع مستطيراً أي منتشراً في الأفق لا مستطيلاً . ويمكن أن يقال : الفصل المشترك بين ما انفجر من الضياء . أي انشق وبين ما هو مظلم بعد يشبه خيطين اتصلا عرضاً . فالذي انتهى إليه الضياء خيط أبيض ، والذي ابتدأ منه الظلام خيط أسود . وقد سبق تقرير الصبح في تفسير قوله تعالى { واختلاف الليل والنهار }
[ البقرة : 164 ] فليتذكر . قيل : ويجوز أن تكون " من " في قوله تعالى { من الفجر } للتبعيض لأنه بعض الفجر وأوّله : ولا شك أن { حتى } لانتهاء الغاية فدلت الآية على أن حل المباشرة والأكل والشرب ينتهي عند طلوع الصبح . فاستدل بهذا على جواز صوم من يصبح جنباً . وبقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } على أن الصوم ينتهي عند غروب الشمس ، لأن ما بعد { إلى } لا يدخل فيما قبلها وخاصة إذا لم يكن من جنسه ، بل على حرمة الوصال . ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد غربت الشمس وأفطر الصائم " فيجب على المكلف أن يتناول في هذا الوقت شيئاً . وكيف لا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوصال فقيل : يا رسول الله إنك تواصل . فقال : " إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " . أي من طعام الجنة ، أو إني على ثقة بأني لو احتجت أطعمني من الجنة ، أو إني أعطيت قوة من طعم وشرب . والتحقيق أن استغراقه في مطالعة جلال الله يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فإذا تناول شيئاً قليلاً ولو قطرة من الماء فبعد ذلك كان بالخيار في الاستيفاء إلا أن يخاف التقصير في الصوم المستأنف أو في سائر العبادات فيلزم حينئذ أن يتناول بمقدار الحاجة ، وقد يتشبث الحنفي بالآية على جواز النية في نهار صوم رمضان لأن مدة الإمساك هو النهار فقط فيجب قصد الإمساك فيه فقط ، ومقتضى هذا الدليل صحة الفرض بنيته بعد الزوال إلا أنا نقول : الأقل ملحق بالأغلب ، فأبطلنا الصوم بنيته بعد الزوال وصححناه بنيته قبله . حجة الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم " من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " ويروى " من لم ينو " وإنما جوز في النفل أن ينوي قبل الزوال لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول : هل من غداء ؟ فإن قالوا لا قال : إني صائم ، وأيضاً الحنفي : يجب إتمام الصوم النفل لقوله { ثم أتموا } والأمر للوجوب . وقال الشافعي : قد ورد هذا عقيب الفرض فيتخصص به وأعلم أنه سبحانه خصص بالذكر من المفطرات الرفث والأكل والشرب لأن النفس تميل إليها . وهاهنا مفطرات أخر استنبطت من الآية أو استفيدت من السنة فمنها الاستمناء لأن الإيلاج من غير إنزال مبطل . فالإنزال بنوع شهوة أولى ، وكذا الإنزال باللمس أو القبلة دون الفكر أو النظر بشهوة لأن هذا يشبه الاحتلام ، وعند مالك الإنزال بالنظر مفطر ، وعند أحمد إن كرر النظر حتى أنزل أفطر .
ومنها الاستقاء لقوله صلى الله عليه وسلم " من ذرعه القيء وهو صائم فلا قضاء عليه ومن استقاء فليقض " ومنها دخول الشيء جوفه من منفذ مفتوح سواء كان فيه قوة محيلة تحيل الواصل إليه من غذاء أو دواء أولا ، فالحلق جوف وكذا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة لما روي عن ابن عباس أن الفطر مما دخل والوضوء مما خرج ، فالحقنة مبطلة للصوم وكذا السعوط إذا وصل إلى الدماغ . ولا بأس بالاكتحال ، وليست العين من الأجواف فإنه صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم . وعن مالك وأحمد إنه إذا وجد في الحلق طعماً أفطر . والتقطير في الأذن إذا وصل إلى الباطن كالسعوط وكذا في الإحليل وإن لم يصل عليه إلى المثانة . ولا بأس بالفصد والحجامة لكن يكره خيفة الضعف . احتجم صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم في حجة الوداع . وقال أحمد : يفسد الصوم بالحجامة . ولو دهن رأسه أو بطنه فوصل إلى جوفه بتشرب المسام لم يضر كالاغتسال والانغماس عند الشافعي ، ولابد أن يكون الواصل عن قصد منه فلو طارت ذبابة إلى حلقه أو وصل غبار الطريق أو غربلة الدقيق إلى جوفه لم يفطر . ولو فتح فاه عمداً لما في الحفظ من العسر . ولو ضبطت المرأة ووطئت أو وجيء بالسكين أو أوجر بغير اختياره فلا إفطار . وكذا لو كان مغمى عليه فأوجر معالجة ولو أكره حتى أكل بنفسه أفطر لأنه أتى بضد الصوم ، ولا أثر لدفع الضرر كما لو أكل أو شرب لدفع الجوع أو العطش . وعند أحمد لا يفطر . وابتلاع الريق الصرف الطاهر من الفم لا يفطر ، والنخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر وإن حصلت فيه بانصبابها من الدماغ إلى الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم ، فإن قدر على مجه ولم يمج حتى جرى بنفسه بطل صومه لتقصيره وإلا فلا ، وإذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه أو استنشق فوصل الماء إلى دماغه لم يفطر على الأصح إن لم يبالغ وبه قال أحمد . وعند أبي حنيفة ومالك يفطر وإن بالغ أفطر وفاقاً . قال صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة : " بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً " ولو بقي طعام في خلل أسنانه فابتلعه عمداً أفطر خلافاً لأبي حنيفة فيما إذا كان يسيراً ، وربما قدره بالحمصة . وإن جرى به الريق من غير قصد منه لم يفطر على الأصح . ولابد أيضاً في وصول العين من ذكر الصوم ، فإذا أكل ناسياً ، فإن قل لم يفطر لقوله صلى الله عليه وسلم " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " وخالف مالك . وإن كثر أفطر . ولو جامع ناسياً للصوم فالأصح أنه لا يبطل كما في الأكل . ولو أكل على ظن أن الصبح لم يطلع بعد ، أو أن الشمس قد غربت وكان غالطاً لم يجزئه صومه على الأشهر لأنه تحقق خلاف ما ظنه واليقين مقدم على الظن . ثم إن كان الصوم واجباً قضى ، وإن كان تطوعاً فلا قضاء . والأحوط في آخر النهار أن لا يأكل إلا بعد تيقن غروب الشمس لأن الأصل بقاء النهار ولو اجتهد وغلب على ظنه دخول الليل بورد أو غيره ، فالأصح جواز الأكل ، وقد أفطر الناس في زمان عمر ثم انكشف السحاب وظهرت الشمس . وأما في أول النهار فيجوز الأكل بالظن والاجتهاد إلى طلوع الفجر لأن الأصل بقاء الليل ، فإن قيل : إن أول الفجر كيف يدرك ويحس ومتى عرف المترصد الطلوع كان الطلوع الحقيقي مقدماً عليه ؟ فيجاب إما بأن المسألة موضوعة على التقدير كدأب الفقهاء في أمثالها وإما بأنا نتعبد بما يطلع عليه . ولا معنى للصبح إلا بظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له كالزوال عند زيادة الظل ، وإذا كان الشخص عارفاً بالأوقات ومنازل القمر ، وكان بحيث لا حائل بينه وبين مطلع الفجر وترصد فمتى أدرك فهو أول الصبح المعتبر ، وحينئذ يحرم المفطرات وعن الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والوقاع إلى طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره . وجعل الخيط الأبيض وقت الطلوع والخيط الأسود ما اتصل به من آخر الليل . ومن الناس من قال : لا يجوز الإفطار إلا عند غروب الحمرة ، كما أنه لا يجوز الأكل إلا إلى طلوع الفجر . وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها . يحكى عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك فكيف إذا زرتني ؟ فسكت عنه أبو حنيفة ، فلما خرج قيل له : لم سكت عنه ؟ قال : ماذا أقول في رجل ما صام ولا صلى في دهره عنى أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل طلوع الشمس فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإكسال فلا صلاة له . واعلم أن في الآية ترتيباً عجيباً ونسقاً أنيقاً وذلك أن الرفث لما كان من أشنع الأمور التي يجب الإمساك عنها في رمضان حتى قال بعض الناس إنه كان حراماً في رمضان ليلاً ونهاراً وفيه قد وقعت الخيانة كما مر في الإخبار . قدم إباحته أولاً ثم بين السبب في إباحته ، ثم وبخ المختانون في شأنه وعقب التوبيخ بالعفو وقبول التوبة ، ثم أعيد ذكر إباحته ليترتب عليه الغرض الأصلي من الرفث وهو طلب النسل ، وليعطف عليه إباحة الأكل والشرب جميع ذلك إلى آخر جزء من أجزاء الليل ، ثم لما بين مدة الإفطار وما أبيح فيها بين مدة الصوم الذي هو المقصود الأصلي تلك المدة هي ما بقي من مدة الإفطار إلى تمام أربع وعشرين ساعة هي مجموع اليوم بليلته ، أعني من أول الفجر الصادق إلى غروب الشمس ، ثم لما كان زمان الاعتكاف مستثنى من ذلك لأنه فهم من الآية أن الإمساك عن الرفث كان مختصاً بنهار رمضان لا بليلته ولا بسائر أيام السنة ولياليها عقب إباحة الرفث فيما سوى نهار رمضان بخطره في حال الاعتكاف فقيل { ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد } قال الشافعي : الاعتكاف حبس المرء نفسه على شيء براً كان أو إثماً . قال تعالى { يعكفون على أصنام لهم } [ الأعراف : 138 ] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تعالى تقربا إليه . وهو من الشرائع القديمة . قال تعالى { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] وللأئمة خلاف في المراد من المباشرة ههنا . فعن الشافعي : في أصح قوليه ووافقه أبو حنيفة وأحمد : إنها الجماع والمقدمات المفضية إلى الإنزال . لأن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين . فالمنع من هذه الحقيقة ما دام في المعتكف وحين يخرج لحاجة ولم تتم مدة الاعتكاف منع عن القبلة والعناق وكل ما فيه تلاصق البشرتين . خالفنا الدليل فيما إذا لم ينزل من هذه الأمور لتبين عدم الشهوة فيها ، وقد علم أن اللمس بغير شهوة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدني رأسه من عائشة لترجل رأسه وهو صلى الله عليه وسلم معتكف ، فيبقى ما فيه الشهوة على أصل المنع . احتج من قال إنها لا تبطل الاعتكاف بأن هذه الأمور لا تبطل الصوم والحج فلا تفسد الاعتكاف ، لأنه ليس أعلى درجة منهما . وأجيب بأن النص مقدم على القياس . واتفقوا على أن شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد لأنه مميز عن سائر البقاع من حيث إنه بنى لإقامة الطاعات . ثم اختلفوا فعن علي رضي الله عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام لقوله تعالى { طهر بيتي للطائفين والعاكفين } [ البقرة : 125 ] أي لجميع العاكفين . وعن عطاء فيه وفي مسجد المدينة لقوله صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " وعن حذيفة فيهما وفي مسجد بيت المقدس لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " الزهري : لا يصح إلا في الجامع . أبو حنيفة : لا يصح إلا في مسجد له إمام راتب ومؤذن راتب . الشافعي : يجوز في جميع المساجد لإطلاق قوله { في المساجد } إلا أن الجامع أولى حتى لا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة . ولا خلاف أن الاعتكاف مع الصوم أفضل وهل يجوز بغير صوم ؟ الشافعي : نعم لأنه بغير الصوم عاكف وأنه تعالى منع العاكف من المباشرة ولو كان اعتكافه باطلاً لما كان ممنوعاً . وأيضاً لو كان الاعتكاف موجباً للصوم لم يصح الاعتكاف في رمضان لأن ذمته مشغولة بالصوم الواجب لشهود الشهر فلا يمكنه الاشتغال بالصوم الذي يوجبه الاعتكاف ، لكنهم أجمعوا على صحة الاعتكاف في رمضان . وأيضاً لو تلازما لخرج المعتكف عن اعتكافه بالليل كما يخرج عن الصوم لكنه لا يخرج . وأيضاً روي أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك " . ومعلوم أنه لا يجوز الصوم في الليلة . أبو حنيفة : لا يجوز لأنه يجب الصيام في الاعتكاف بالنذر فيجب بغير نذر أيضاً كعكسه في الصلاة حال الاعتكاف ، وهو أن الصلاة لما لم تجب في النذر بالإجماع لم تجب في غير النذر ، أيضاً وفرق بأن الصوم والاعتكاف متقاربان ، فكل منهما كف وإمساك ، والصلاة أفعال مباشرة لا مناسبة بينها وبين الاعتكاف فلا يجعل أحدهما وصفاً للآخر ، ولهذا قلنا : إنه لو نذر أن يعتكف صائماً أو يصوم معتكفاً لزمه كلاهما ، والجمع بينهما . ولو نذر أن يعتكف مصلياً أو يصلي معتكفاً لزمه كلاهما دون الجمع بينهما . ويتفرع على المذهبين أنه يجوز أن ينذر اعتكاف ساعة عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس . قال الشافعي : وأحب أن يعتكف يوماً وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف . { تلك حدود الله } إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى ههنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده ، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة . وحد الشيء مقطعه ومنتهاه ، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها ، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة . وإنما قال ههنا { فلا تقربوها } وفي موضع آخر { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق ، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل . فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل . عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه " وقيل : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله
ولا تقربوا مال اليتيم } [ الإسراء : 34 ] وقيل : الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي ، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها . وأما في الأوامر فقال { فلا تعتدوها } [ البقرة : 229 ] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها ، { كذلك } أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام { يبين } سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته .