الأولى : قوله تعالى : " أحل لكم " لفظ " أحل " يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر{[1611]} فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها . فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية ، وفيها : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " . وروى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " . وفي البخاري أيضا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل اللّه تعالى : " علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم " يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم . ومن عصى اللّه فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب . وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه . وذكر الطبري : أن عمر رضي اللّه تعالى عنه رجع من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : أعتذر إلى اللّه وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : ( لم تكن حقيقا يا عمر ) فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره النحاس ومكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت : " علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " الآية .
الثانية : قوله تعالى : " ليلة الصيام الرفث " ( ليلة ) نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت .
قوله تعالى : " الرفث إلى نسائكم " والرفث : كناية عن الجماع لأن اللّه عز وجل كريم يكني ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقال الأزهري أيضا . وقال ابن عرفة : الرفث ههنا الجماع . والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعر :
ويُرَيْنَ من أُنس الحديث زوانيا *** وبهن عن رفث الرجال نِفَارُ
وقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :
وربَّ أسْرَابِ حجيج كظَّم *** عن اللَّغا ورَفَثِ التكلم
وتعدى " الرفث " بإلى في قوله تعالى جده : " الرفث إلى نسائكم " . وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكنه جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : " وقد أفضى بعضكم إلى بعض{[1612]} " [ النساء : 21 ] . ومن هذا المعنى : " وإذا خلوا إلى شياطينهم " [ البقرة : 14 ] كما تقدم{[1613]} . وقوله : " يوم يحمى عليها " [ التوبة : 35 ] أي يوقد ؛ لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي{[1614]} ، ومنه قوله : " فليحذر الذين يخالفون عن أمره{[1615]} ، " [ النور : 63 ] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ، لأنك تقول : خالفت زيدا . ومثله قوله تعالى : " وكان بالمؤمنين رحيما{[1616]} " [ الأحزاب : 43 ] حمل على معنى رؤوف في نحو " بالمؤمنين رؤوف رحيم{[1617]} " [ التوبة : 128 ] ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية . ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي :
حملت به في ليلة مَزْؤُودَةٍ{[1618]} *** كَرْهاً وعقدُ نطاقها لم يُحْلَلِ
عدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : " حملته أمه كرها ووضعته كرها{[1619]} " [ الأحقاف : 15 ] ، ولكنه قال : حملت به ؛ لأنه في معنى حبلت به .
الثالثة : قوله تعالى : " هن لباس لكم " ابتداء وخبر ، وشددت النون من " هن " لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . " وأنتم لباس لهن " أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب . وقال النابغة الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدَها *** تداعت فكانت عليه لباسا
لبستُ أناسا فأفنيتهم *** وأفنيت بعد أناسٍ أناسا
وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس . فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر . وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس . وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا *** فِدىً لك من أخي ثقةٍ إزاري
قال أبو عبيد : أي نسائي . وقيل نفسي . وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .
الرابعة : قوله تعالى : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : " تقتلون أنفسكم " [ البقرة : 85 ] يعني يقتل بعضكم بعضا . ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله : " فتاب عليكم " يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر - التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم{[1620]} " [ المزمل : 20 ] يعني خفف عنكم . وقوله عقيب القتل الخطأ : " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله{[1621]} " [ النساء : 92 ] يعني تخفيفا ؛ لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة{[1622]} " [ التوبة : 117 ] وإن لم يكن من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : " وعفا عنكم " يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة والتسهيل ، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني تسهيله وتوسعته . فمعنى " علم اللّه " أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة " فتاب عليكم " بعد ما وقع ، أي خفف عنكم " وعفا " أي سهل . و " تختانون " من الخيانة ، كما تقدم . قال ابن العربي : " وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي اللّه عنه فجعلها اللّه تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي اللّه عنه وأرضاه " .
قوله تعالى : " فالآن باشروهن " كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة ؛ لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي : وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي اللّه عنه لا جوع قيس ، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله .
الخامسة : قوله تعالى : " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : " فالآن باشروهن " . وقال ابن عباس : ما كتب اللّه لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به . وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر . وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . وقيل : " ابتغوا ما كتب اللّه لكم " من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة " واتبعوا " من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح " ابتغوا " من الابتغاء .
السادسة : قوله تعالى : " وكلوا واشربوا " هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .
السابعة : قوله تعالى : " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " " حتى " غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر . واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير{[1623]} هكذا ) . وحكاه حماد{[1624]} بيديه قال : يعني معترضا . وفي حديث ابن مسعود : ( إن الفجر ليس الذي يقول{[1625]} هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ) . وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : ( هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان{[1626]} فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام ) هذا مرسل . وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن عمر{[1627]} وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت . وروى النسائي عن عاصم عن زر قال : قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع . وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي اللّه قال : ( كلوا وأشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر ) . قال الدارقطني : [ قيس بن طلق ]{[1628]} ليس بالقوي . وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى{[1629]} الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بقوله : ( إنما هو سواد الليل وبياض النهار ) الفيصل في ذلك ، وقوله " أياما معدودات " [ البقرة : 184 ] . وروى الدارقطني عن عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له ) . تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) . رفعه عبدالله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها . ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول أبي حنيفة ، وهي :
الثامنة : وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " ولم ينزل " من الفجر " وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل اللّه بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول اللّه ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : ( إنك لعريض القفا{[1630]} إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار ) . أخرجه البخاري . وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر :
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق *** والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون . والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجرا لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بينا . قال أبو دواد الإيادي :
فلما أضاءت لنا سُدْفَةٌ{[1631]} *** ولاحَ من الصبح خيطٌ أنارا
قد كاد يبدو وبدت تباشره *** وسَدَفُ الليل البهيم ساتره
وقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معد يكرب :
ترى السِّرْحَانَ مفترشا يديه *** كأن بياض لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :
إذا ما الليل كان الصبح فيه *** أشق كمفرق الرأس الدهين
ويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر :
فوردت قبل انبلاج الفجر *** وابن ذُكَاءَ كامن في كَفْرِ{[1632]}
التاسعة : قوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " جعل اللّه جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما . فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه . فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه مالك في موطئه ، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ( أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا ) الحديث . وبهذا قال الشعبي . وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث أبي هريرة أيضا قال : جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول اللّه قال : ( وما أهلكك ) قال : وقعت على امرأتي في رمضان . . . ) الحديث . وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه مسلم . وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ؛ لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا . وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن والزهري . ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول : ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم . وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .
العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان ، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج . وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير . وهو قول سحنون بن سعيد المالكي . وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .
الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة . وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى . وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ؛ لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال ابن المنذر : لا شيء عليه .
الثانية عشرة : قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطّره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال ابن المنذر : وبه نقول . وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ؛ لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر . وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .
قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه اللّه تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن اللّه أطعمه وسقاه ) . أخرجه الدارقطني . وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبدالله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة . ثم قال أبو عبدالله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك . وقال ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى اللّه عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : ( يتم صومه ) وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .
قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - واللّه أعلم - كمن لم يفطر ناسيا . وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم ؛ لقوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته . وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ) فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء . وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا قضاء عليه ) .
قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ) أخرجه الدارقطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .
الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر ؛ لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ، ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبدالله بن عمر رضي اللّه عنهما كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - واللّه أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى البخاري عن عائشة قالت : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم . وممن كره القبلة للصائم عبدالله بن مسعود وعروة بن الزبير . وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة ، قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي ، واختاره ابن المنذر وقال : ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم . وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا . وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء . وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه . وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر . وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول مالك في المدونة . وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع . والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ؛ لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له . وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة ؛ لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .
قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة [ فأنزل ]{[1633]} فقد قال الشيخ أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال الباجي : وهو الصحيح عندي ؛ لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، واللّه أعلم " . وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله ابن المنذر . قال الباجي : وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .
الرابعة عشرة : والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب . وقال القاضي أبو بكر بن العربي : " وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح " .
قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره . وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : واللّه ما أنا قلته ، محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح . وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير . وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .
قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي اللّه عنها وأم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم . وعن عائشة رضي اللّه عنها قالت : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم ، أخرجهما البخاري ومسلم . وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : " فالآن باشروهن " الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر . وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه . وقال المزني : عليه القضاء ؛ لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .
الخامسة عشرة : واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول مالك وابن القاسم . وقال عبدالملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ؛ لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبدالملك . وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال . وذكر ابن الجلاب عن عبدالملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض . وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي . وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .
السادسة عشرة : وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها .
السابعة عشرة : روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : " أفطر الحاجم والمحجوم " . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس ، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج . وقال مالك والشافعي والثوري : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير . وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف . وقال أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى اللّه عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) . واحتجم هو صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى اللّه عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ؛ لأنه صلى اللّه عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان ، لأنه توفي في ربيع الأول ، صلى اللّه عليه وسلم .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : " ثم أتموا الصيام إلى الليل " أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . و " إلى " غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها داخل في حكمه ، كقولك : اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه . فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .
التاسعة عشرة : ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء . وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية . وقيل : عليه القضاء والكفارة . وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .
الموفية عشرين : قوله تعالى : " إلى الليل " إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى اللّه عليه وسلم : ( إذا جاء الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم ) . وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد . وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى ، لأنه مقتضى الكتاب والسنة . الحادية والعشرون : فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء . وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام{[1634]} : فأمروا بالقضاء ، قال : لا بد من قضاء . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت{[1635]} يريد القضاء . وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر . وقول اللّه تعالى : " إلى الليل " يرد هذا القول ، واللّه أعلم .
الثانية والعشرون : فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قال مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها . ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله . ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر . وقال الكيا الطبري : وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد . ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله . وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : " إلى الليل " فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته عائشة . وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبدالله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه . وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها . وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم ) . خرجه مسلم من حديث عبدالله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : ( لو تأخر الهلال لزدتكم ) كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه مسلم عن أبي هريرة . وفي حديث أنس : ( لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم ) . خرجه مسلم أيضا . وقال صلى اللّه عليه وسلم : ( إياكم والوصال إياكم والوصال ) تأكيدا في المنع لهم منه ، وأخرجه البخاري . وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء . وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( إن فصل{[1636]} ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر ) . خرجه مسلم وأبو داود . وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ) قالوا : فإنك تواصل يا رسول اللّه ؟ قال : ( لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم وساق يسقيني ) . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو الغاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت . وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : ( لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ) . فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء اللّه وألزموا أنفسهم أعلى المقامات واللّه أعلم .
قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه . وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى . وظاهر هذه الحقيقة : أنه صلى اللّه عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها . وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها . ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا . وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم . وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى اللّه عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) . وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى . وباللّه التوفيق .
الرابعة والعشرون : ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء . وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح . وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أفطر قال : ( لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ) . وعن ابن عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا أفطر : ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء اللّه ) . خرجه أبو داود أيضا . وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن . وروى ابن ماجه عن عبدالله بن الزبير قال : أفطر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : ( أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ) . وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ) . وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ( إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد ) . قال ابن أبي مليكة : سمعت عبدالله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : ( للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه ) .
الخامسة والعشرون : ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر ) هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( جعل اللّه الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة ) . رواه النسائي . واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان . وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه . واستحب صيامها الشافعي ، وكرهه أبو يوسف .
السادسة والعشرون : قوله تعالى : " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن البصري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان . فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ؛ لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر . قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل . واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه . قاله المزني . وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .
السابعة والعشرون : قوله تعالى : " وأنتم عاكفون " جملة في موضع الحال . والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز :
عَكْفَ النَّبيط يلعبون الفَنْزَجَا{[1637]}
وظل بنات الليل حولي عُكَّفاً *** عكوفَ البواكي بينهن صريع
ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة اللّه مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم . وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص . وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .
الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول اللّه تعالى : " في المساجد " واختلفوا في المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ومسجد إيلياء{[1638]} ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها . وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ؛ لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك . وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما . وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي مالك ، وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر . وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ( كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح ) . قال الدارقطني : والضحاك لم يسمع من حذيفة .
التاسعة والعشرون : وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن قال : لله عليّ اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم . وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة . وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون . قال الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره . وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة . وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول داود بن علي وابن علية ، واختاره ابن المنذر وابن العربي . واحتجوا بأن اعتكاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره . ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه . ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم . وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهم . وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبدالله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول اللّه تعالى في كتابه : " وكلوا واشربوا " إلى قوله : " في المساجد " وقالا : فإنما ذكر اللّه الاعتكاف مع الصيام . قال يحيى قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا . واحتجوا بما رواه عبدالله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما [ عند الكعبة ]{[1639]} فسأل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : ( اعتكف وصم ) . أخرجه أبو داود . وقال الدارقطني : تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف . وعن عائشة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : ( لا اعتكاف إلا بصيام ) . قال الدارقطني : تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .
الموفية ثلاثين : وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) تريد الغائط والبول . ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه . ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة . وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه . وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة . وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه . واختلف فيه عن أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس . وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يخرج له .
الحادية والثلاثون : واختلفوا في خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ؛ لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر . ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع . وإذ ا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه . وقال عبدالملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .
قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : " وأنتم عاكفون في المساجد " فعم . وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان .
الثانية والثلاثون : المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ؛ لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم اللّه تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله ابن خويز منداد عن مالك .
الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : ( كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . ) الحديث . واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس . وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر . وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبدالملك ؛ لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم . وقال الشافعي : إذا قال لله عليّ يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر . وقال الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء . وروي مثل ذلك عن أبي يوسف ، وبه قال القاضي عبدالوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم . فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل .
قلت : وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .
الرابعة والثلاثون : استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال أحمد . وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه سحنون عن ابن القاسم ، لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان . وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه . وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر ، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر ، وفي الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف . فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات ، فيها لممن اقتصر عليها كفاية ، واللّه الموفق للهداية .
الخامسة والثلاثون : قوله تعالى : " تلك حدود الله " أي هذه الأحكام حدود اللّه فلا تخالفوها ، " فتلك " إشارة إلى هذه الأوامر والنواهي . والحدود : الحواجز . والحد : المنع ، ومنه سمي الحديد حديدا ، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن . وسمي البواب والسجان حدادا ؛ لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها ، ويمنع الخارج من الدخول فيها . وسميت حدود اللّه لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج منها ما هو منها ، ومنها سميت الحدود في المعاصي ، لأنها تمنع أصحابها من العود إلى أمثالها . ومنه سميت الحاد في العدة ، لأنها تمتنع من الزينة .
السادسة والثلاثون : قوله تعالى : " كذلك يبين الله آياته للناس " أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها . والآيات : العلامات الهادية إلى الحق . و " لعلهم " ترج في حقهم ، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره اللّه للهدى ، بدلالة الآيات التي تتضمن أن اللّه يضل من يشاء .