قوله تعالى : { لَيْلَةَ الصِّيَامِ } منصوبٌ على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين - : " أُحِلَّ " ، وليس بشيءٍ ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت .
الثاني : أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ " الرَّفَث " ، تقديرُه : أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام ؛ كما خرَّجوا قول الشاعر : [ الهزج ]
950 - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَه *** لِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ{[2678]}
أي : إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث ؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور .
الثالث : أنه متعلِّق بالرَّفثِ ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وأضيفت اللِّيلةُ للصيام ؛ اتِّساعاً ، لأنَّ شرط صحته ، وهو النيةُ ، موجودةٌ فيها ، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف ، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول : الليلة : عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها ، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر ، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك .
والجمهورُ على " أُحِلَّ " مبنيّاً للمفعول للعلمِ به ، وهو اللَّهُ تعالى ، وقرئ{[2679]} مبنياً للفاعل ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ من باب الإضمار ؛ لفَهْمِ المعنى ، أي أَحَلَّ اللَّهُ ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم .
والثاني : أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } وهو المتكلِّم ، ويكونُ ذلك التفاتاً ، وكذلك في قوله : " لَكُمْ " التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في : " فَلْيَسْتَجِيبُوا ، وَلْيُؤْمِنُوا " ، وعُدِّي " الرَّفث " ب " إِلَى " ، وإنما يتعدَّى بالباء ؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
[ النساء : 21 ] كأنه قيل : أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ . قال الواحديّ{[2680]} : أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام ، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة ؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ : [ الوافر ]
951 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ *** فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ{[2681]}
قال ابن الخطيب{[2682]} : وأقولُ : فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أنَّه ليس المراد من " لَيْلَةَ الصِّيَامِ " ليلةً واحدةً ، بل المراد الإشارةُ إلى اللَّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة .
وقرأ عبد الله{[2683]} " الرَّفُوثُ " قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش ، والرَّفثُ لغةً مصدرُ : رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها ، إذا تكلم بالفُحشِ ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ ؛ قال العجاج : [ الرجز ]
952 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ *** عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ{[2684]}
وقال الزَّجَّاج : - ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما - " إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ " ، وقيل : الرَّفث : الجِمَاعُ نفسُهُ ، وأنشد : [ الكامل ]
953 - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً *** وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ{[2685]}
954 - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ *** وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ{[2686]}
ولا دليل ؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع ؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة ، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ ، وهو مُحْرِمٌ : [ الرجز ]
955 - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا *** إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا{[2687]}
فقيل له : رَفَثْتَ ، فقال : إنَّما الرَّفَثُ عند النساء .
فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش ، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء ، ثم جعل كنايةً عن الجماع ، وعن توابعه .
فإن قيل : لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ " الرَّفَث " الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله { وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] وقوله تعالى : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ } [ النساء : 43 ] وقوله عز وجل : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ }
[ البقرة : 223 ] وقوله { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وقوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } [ النساء : 24 ] { وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ } [ البقرة : 222 ] .
فالجواب : أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة ؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم ؛ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي ، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث ، فإنما عنى به الجماع{[2688]} .
ذكروا في سبب نزول هذه الآية : أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيام ، ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة ، فإن فعل أحدهما : حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية ، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً ، وقد أجهده الصَّوم ، واختلفوا في اسمه ؛ فقال معاذٌ{[2689]} : اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة{[2690]} ، وقيل صرمة بن أنس .
فسأله{[2691]} النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ ، فقال : يا رسول الله ، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ : حتَّى أَمْسَيْتُ ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً ، فَأَبْطَأتْ ، فنمت فَأَيْقَظُونِي ، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله إنِّي أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطية ؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلَّيت العشاء ، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفسي ، فجامعت أهلي ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ومجَّد وبجَّل ، وعظَّم : ما كنت جديراً بذلك يا عمر ، فقام رجالٌ ، فاعترفوا بمثله ، فنزل قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ }{[2692]} .
ذهب جمهور المفسِّرين أنَّه كان في أوَّل شرعنا ، إذا أفطر الصَّائم ، حلَّ له الأكل والشُّرب والجماع ، ما لم ينم أو يُصَلِّ العشاء الآخرة ، فإذا فعل أحدهما ، حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إنَّ الله تعالى ، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة{[2693]} .
وقال أبو مسلم{[2694]} : هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة ، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى ، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم .
أحدها : قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم ؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا ، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة .
الثاني : قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر ، لم يكن لقوله : " أُحِلَ لَكُمْ " فائدةٌ .
الثالث : قوله سبحانه : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } ولو كان ذلك حلالاً لهم ، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم .
الرابع : قوله تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } [ وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل ، لما صحَّ قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ] .
الخامس : قوله تعالى : " فالآنَ بَاشِرُهُنَّ " ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى : " فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " فائدةٌ .
السادس : ما رويناه في سبب النُّزُول .
وأجاب أبو مُسْلمٍ{[2695]} عن الأوَّل : بأنَّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب .
وعن الثَّاني : بأنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا ، فقوله : " أُحِلَّ لَكُمْ " معناه : أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم .
وعن الثالث : بأنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا ، ولم ينقل زوال تلك الحرمة ، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا ، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها ، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } وكان مما كتب على الذين من قبلنا هذه الحرمة ؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور ، فقال تبارك وتعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللَّيل ، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتها ؛ بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم ؛ كسُنَّة النصارى ، وأصل الخيانة : النَّقصُ .
وعن الرابع : أن التوبة من العبد : الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله سبحانه : الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز ، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا ، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ{[2696]} " وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ " {[2697]} والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت ؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً ، أي : سهلاً .
وعن الخامس : بأنَّهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة ، فبيَّن الله تعالى ذلك ، وأزال الشُّبهة بقوله : " :فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " .
وعن السادس : بأنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية ؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } ؛ لأنَّ ظاهره المباشرة ، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة .
قوله : " كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ " في محلِّ رفعٍ خبرٌ ل " أَنَّ " . و " تَخْتَانُونَ " في محلِّ نصبٍ خبرٌ ل " كَانَ " .
قال أبو البقاء{[2698]} : و " كُنْتُمْ " هنا لفظها لفظ الماضي ، ومعناها أيضاً ، والمعنى : أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم ، فتاب عليهم منه ، وقيل : إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال ، وذكر " كَانَ " ليحكي بها الحال ؛ كما تقول : إن فعلت ، كنت ظالماً " وفي هذا نظرٌ لا يخفى .
و " تَخْتَانُونَ " تَفْتَعِلُونَ من الخيانة ، وعينُ الخيانة واوٌ ؛ لقولهم : خَانَ يَخُونُ ، وفي الجمع : خَوَنَة ، يقال : خَانَ يَخُونُ خَوْناً ، وخِيَانَةَ ، وهي ضدُّ الأمانة ، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت : [ الوافر ]
956 - بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا *** قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ{[2699]}
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ ، وخَانَهُ الدَّهْرُ ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ ، إذا لم يف ، ومنه قوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً }
[ الأنفال : 58 ] والمدين خائنٌ ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه ؛ ومنه قوله تعالى : { لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] وقال تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ }
[ الأنفال : 71 ] فسُمِّيت المعصية بالخيانة .
وقال الزمخشريُّ : " والاخْتِيَانُ : من الخيانة ؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ ، فيه زيادةٌ وشِدَّة " ؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى ، كما قدَمَهُ في قوله تعالى : { الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ } وقيل هنا : تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ ، أي : تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء ، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل ، يقال : تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ ، بمعنى تَعَهَّدَهُ ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم ؛ لأنه باللام أشهر .
و " عَلِمَ " إن كانت المتعدية لواحدٍ ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ ، فتكونُ " أَنَّ " وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ ، وإن كانت المتعدية لاثنين ، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه{[2700]} - رحمه الله - ومَسَدَّ أحدهما ، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش .
وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } لا محلَّ له من الإعراب ؛ لأنه بيانٌ للإحلال ، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ .
يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلَّ صبركم عنهنَّ ، وضعف عليكم اجتنابهنَّ ؛ فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ . وقدَّم قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } على { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها ؛ ولأنَّه هو البادىءُ بطلب ذلك ، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة ؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ - : [ المتقارب ]
957 - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا *** تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ{[2701]}
958 - لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ *** وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا{[2702]}
قال القرطبيُّ{[2703]} : وشُدِّدتُ النُّون من " هُنَّ " لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكَّر .
وورد لفظ " اللِّبَاسِ " على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى السَّكَن ؛ كهذه الآية .
الثاني : الخلط ؛ قال تبارك وتعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ الأنعام : 82 ] ، أي : لم يخلطوا .
الثالث : العمل الصالح ؛ قال تعالى : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى } [ الأعراف : 26 ] ، أي : عمل التقوى .
الرابع : اللِّباس بعينه ؛ قال تعالى : { يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً } [ الأعراف : 26 ] .
فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللِّباس
في تشبه الزَّوجين باللِّباس وجوه :
أحدها : أنه لمَّا انضمَّ جسد كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر ؛ كالثَّوب الذي لبس ، سُمِّي كلُّ واحدٍ منهما لباساً .
قال الرَّبيعُ : هُنَّ فراشٌ لكم ، وأَنْتُمْ لِحَافٌ لهُنَّ{[2704]} .
وقال ابن زَيْدٍ : إنَّ كلَّ واحِدٍ منها يَسْتُرُ صاحبَهُ عند الجماع عن أبْصَارِ النَّاسِ .
وقال أبو عُبَيْدَةَ وغيره : يقال للمَرْأةِ : هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ ، وقيل : اللِّبَاسُ اسمٌ لما يُواري الشَّيء ، فيجوز أن يَكُونَ كُلُّ واحد منهما سِتْراً لصاحبه عمَّا لا يَحِلُّ ؛ كما ورد في الحديث : " مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ سَتَرَ ثُلُثَيْ دِينِهِ " .
الثاني : أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر ؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه .
قال الوَاحِديُّ{[2705]} - رحمه الله - : إنما وحَّد " اللِّباس " بعد قوله تعالى : " هُنَّ " ؛ لأنه يجري مجرى المصدر ، و " فِعَالٌ " من مصادر " فَاعَلَ " ، وتأويله : وهُنَّ ملابساتٌ لكم .
فصل في معنى " تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ "
قال القرطبيُّ{[2706]} : معنى { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أي : يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم ؛ كقوله تعالى : { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] أي : يقتل بعضكم بعضاً ، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه ؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حيث كان ضرره عائداً عليه ؛ كما تقدَّم .
قال ابن الخطيب{[2707]} : إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم ، ولم يبيِّن تلك الخيانة فيماذا ، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر ، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع ، والذي تأخَّر هو قوله تعالى : " فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان :
الأول : عَلِمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة ، والأكْل بَعْد النَّوم ، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله ، فقد خانَ نفسه ؛ وعلى هذا القول : يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم ؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار ، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم ، دلَّ على تحريم سابقٍ ، ولأبي مسلم أن يقول : قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس ، وهذا أولى ؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ : علمك [ الله ] أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ [ أنفُسكم ] ، وإنما قال : تَخْتَانُونَ أنْفُسَكُمْ ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا ، إن لم يكن أولى ، فلا أقلَّ من التساوي ، وبهذا التقدير : لا يثبت النَّسخ{[2708]} .
القول الثاني : أنَّ المراد { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } لو دامت تلك الحرمة ، فمعناه : أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ ، لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التقدير : ما وقعت الخيانة ، فيمكن أن يقال : التفسير الأوَّل أولى ؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى إضمار الشَّرط ، وأن يقال : بل الثاني أولى ؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف ، وعلى الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف ، لحصلت الخيانة ، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده ، حتى لا يقعوا في الخيانة .
وأمَّا قوله تعالى " فَتَابَ عَلَيْكُمْ " فمعناه على قول أبي مُسلم{[2709]} : فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار ، تقديره : تبتم ، فتاب عليكم ، وقوله " وَعَفَا عَنْكُمْ " على قول أبي مسلم{[2710]} : أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل ، ولفظ " العَفْو " يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ كما قدَّمناه ، وعلى قول مثبتي النَّسخ ، لا بد وأن يكون تقديره : عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ ، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم ؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ .
قوله : " فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " قد تقدَّم الكلام على " الآنَ " وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ ، وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبلٌ أبداً ، وتأويله ما قاله أبو البقاء{[2711]} ؛ قال : " وَالآنَ : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنَّ قوله : " فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ " ، أي : فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ " ، وقيل : هذا كلامٌ محمولٌ على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حَقِيقَتِهِ . وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً ، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه :
قال ابن العَرَبِيِّ{[2712]} : وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر ، لا جوع قيس ، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍ ، لقال : " فَالآن كُلُوا " ابتداءً به ؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله .
وقرأ{[2713]} ابن عباس - رضي الله عنهما- : " وَاتَّبِعُوا " من " الاتّباع " وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريِّ ، وفسَّروا { مَا كَتَبَ اللَّهُ } بليلةِ القدر ، أي اتَّبِعوا ثوابها ، قال الزمخشريُّ : " وهو قريبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ " .
دلَّت الآية على أنَّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة{[2714]} ، ومن قال بأنَّ مطلق الأمر للوجوب ، قالوا : إنما تركنا الظَّاهر هنا للإجماع ، وفي المباشرة قولان :
أحدهما - وهو قول الجمهور : أنَّها الجماع ، سمِّي بهذا الاسم ؛ لتلاصق البَشَرَتَيْنِ{[2715]} .
والثاني - قول الأصمِّ : أنه محمولٌ على المباشرات ، ولم يقصره على الجماع ، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة ، لأنها مشتقَّةٌ من تلاصق البَشَرَتَيْن ، إلاَّ أنَّهم اتفقوا على أنَّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع ؛ لأنَّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، وأمَّا اختلافهم في قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فحمله بعضهم على كلِّ المباشرات ؛ لأنَّ المعتكف ، لمَّا مُنِعَ من الجماع ، فلا بُدَّ وأن يمنع مما دونه .
في قوله تعالى : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } وجوهٌ :
أحدها : الولد ، أي : لا تباشِرُوا لقضاءِ الشَّهوة وحدها ؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النِّكاح من التَّناسل .
قال - عليه الصَّلاة والسَّلام- : " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا ؛ تَكْثُرُوا " .
والثاني : أنَّه نهيٌ عن العزل .
الثالث : ابتغوا المحلَّ الذي كتبه الله لكم وحلَّله ؛ ونظيره { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [ البقرة : 222 ] .
الرابع : أنه للتأكيد ، تقديره : فالآن بَاشرُوهُنَّ وابْتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرَّمةً عليكم .
الخامس : قال أبو مُسْلَمٍ{[2716]} : فالآنَ باشرُوهُنَّ ، وابتغوا هذه المباشرة التي كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنونها محرَّمة عليكم .
السادس : أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات ؛ بسبب الحيض والنِّفاس والعِدَّة والرِّدَّة ؛ فقوله : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } يعني : لا تباشِرُوهنَّ إلاَّ في الأوقاتِ المأذونِ لكم فيها .
السابع : " فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " إذن في المباشرة ، وقوله : { وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّه لَكُمْ } [ يعني : لا تبتغوا هذه المباشرة إلاَّ من الزَّوجة والمملوكة ] بقوله : { إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] .
الثامن : قال معاذ بن جبلٍ ، وابن عبَّاسٍ في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلةَ القدر ، وما كتب الله لكم من الثَّواب فيها إن وجدتُمُوها{[2717]} .
وقال ابن عبَّاس : ما كتب الله لنا هو القرآن{[2718]} .
قال الزَّجَّاج : أي : ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه ، وأمرتم به{[2719]} . وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة{[2720]} .
قال قتادة : وقيل : ابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزَّوجات{[2721]} .
أحدها : أنَّها هنا بمعنى جَعَل ؛ كقوله { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ }
[ المجادلة : 22 ] أي : جَعَل ، وقوله تعالى : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }
[ آل عمران : 53 ] ، وقوله سبحانه { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 156 ] .
الثاني : معناه قضى الله لكم ؛ كقوله عزَّ وجلَّ :
{ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] ، أي : قضاه .
الثالث : ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ .
الرابع : ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال .
قوله : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } الفائدةُ في ذكرهما : أنَّه لو اقتصر على قوله : " فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب ، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ ، والأول جواب نازلةِ عمر ، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ .
قوله : " حَتَّى يَتَبَيَنَّ " " حَتَّى " هنا غايةٌ لقوله : { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } بمعنى " إلى " ، ويقال : تَبَيَّنَ الشَّيْءُ ، وَأَبَانَ ، واسْتَبَانَ ، وَبَانَ كُلُّه بمعنًى ، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً ، إلاَّ " بَانَ " فلازمٌ ليس إلاَّ ، و " مِنَ الخَيْطِ " لابتداء الغاية ، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب " يَتَبَيَّنَ " ؛ لأنَّ المعنى : حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود .
و { مِنَ الْفَجْرِ } يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون تبعيضيةً ؛ فتتعلَّق أيضاً ب " يَتَبيَّنَ " ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله ، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ ؛ لاختلاف معناهما .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض ، أي : الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر ، وعلى هذا يجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنس ؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ .
والثالث : أن يكون تمييزاً ، وهو ليس بشيء ، وإنما بَيَّن قوله { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ } بقوله : { مِنَ الْفَجْرِ } ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود ؛ فيقول : مِنَ اللَّيْلِ ؛ اكتفاءً بذلك ، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ .
وهذا من أحسن التَّشْبيهات ، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط ، تعجَّب منه ، وقال : " إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ " ويُروى : " إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا " .
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ ، ويروى أن بين قوله { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } وبين قوله : { مِنَ الْفَجْرِ } عاماً كاملاً في النزول .
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ ، قال : أُنْزِلَتْ { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ } ولم ينزل قوله : { مِنَ الْفَجْرِ } وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم ، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض ، والخَيْط الأَسْود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى { مِنَ الْفَجْرِ } ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار ، وسُمِّي الفجر خَيطاً ؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً ؛ كالخيط .
959 - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ *** وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ{[2722]}
والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون ، قاله القرطبيُّ{[2723]} ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال : [ المتقارب ]
960 - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ *** وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا{[2724]}
وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع ، ومنه قولهم : انْصَدَعَ الفجْرُ ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ ، أو عَمْرُو بن مَعْدِيكرِبَ : [ الوافر ]
961 - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً *** يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ{[2725]}
وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة ؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه ، وهنا قد ذكر وهو قوله : { مِنَ الْفَجْرِ } ، ونظيره قولك : " رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد " ، لو لم تَذْكُر : " مِنْ زَيْدٍ " لكان استعارةٌ ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً ، حتَّى نزل " مِنَ الفَجْرِ " فتركت الاستعارة ، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا .
فإن قيل : إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط ، وأما الصُّبْحُ الصادق ، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق ، فلزم على مقتضى الآية أن يكون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب ، وليس كذلك بالإجماع .
فالجواب : أنَّ قوله { مِنَ الْفَجْرِ } بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق ، لا يكون منتشراً ، بل يكون صغيراً دقيقاً ، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً ، ويرفع مستطيلاً . والفجر مصدر قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً ، قال الأزهريُّ : الفَجْرُ أصله الشَّقُّ ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح .
زعم أبو مسلم الأصفهاني{[2726]} : أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث ، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط ، فلا يفطر شيءٌ منها .
قال : لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر ، وبقي ما سواها على الإباحة الأصليَّة ، والفقهاء قالوا : خصوا هؤلاء بالذِّكْر ؛ لأنَّ النَّفس تميل إليهما .
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح ؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم{[2727]} ، وهذه الآية تبطل قولهم ؛ لأنَّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح .
ويؤيِّده ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنبٌ من أهله ، ثم يغتسل ويصوم{[2728]} ، والله أعلم .
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره ؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس ، قال : إن المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار ، قال : ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد ؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصُّبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشَّكل ألبتة ؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار .
ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس ؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه ؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك ؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً ، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس ، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر ؛ لأنَّه آخر آثر الشمس ؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس ، وإذا بطل هذا ، بَطَل ذاك ، ومن النَّاس من قال : آخر النهار غيابُ الشَّفَق ، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب ، وكلُّها مذاهب باطلةٌ .
قوله " إلى اللَّيلِ " في هذا الجارِّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بالإتمام ، فهو غايةٌ له .
والثاني : أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائناً إلى اللَّيل ، و " إلَى " إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها ، لم يدخل فيه ، والآية من هذا القبيل .
فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل
اختلفوا في اللِّيل ما هو ؟ فمنهم : من قاس آخر النهار على أوله ، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس ؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس .
ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة ، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك ، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام - : " إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ " وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال .
الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه{[2729]} بقوله تعالى { أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام .
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض ؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : " الصائم المتطوِّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر " {[2730]} .
وعن أمِّ هانىء : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهَا ، فَشَرِبَتْ ، فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ ، فقال : " إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ ، فاقْضي مَكَانَهَُ ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً ، فإن شِئْتِ فاقْضي ، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي " {[2731]} .
قوله : { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } جملةٌ حاليةٌ من فاعل " تُبَاشِرُوهُنَّ " ، والمعنى : " لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ " ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف ؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً .
والعُكُوفُ : الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع : لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه ، يقال : عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر ، وقد قرئ{[2732]} :
{ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ }
[ الأعراف : 138 ] بالوجهين ، وقال الفَرَزْدَقُ : [ الطويل ]
962 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ- *** -عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ{[2733]}
وقال الطِّرمَّاحُ : [ الطويل ]
963 - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً *** عُكُوفَ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ{[2734]}
ويقال : الافتعال منه في الخير ، والانفعال في الشَّرِّ ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع . فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط ، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة ، وقرأ قتادة{[2735]} : " عَكِفُونَ " كأنه يقال : عَاكِفٌ وعَكِفٌ ؛ نحو : " بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ وَرَبٌّ " ، وقرأ{[2736]} الأعمش : " في المَسْجِدِ " بالإفراد ؛ كأنه يريد الجنس .
لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام ، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً .
لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة ، جاز ؛ لحديث عائشة{[2737]} ، وإن لمسها بشهوة ، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام ، وهل يبطل به اعتكافه ؟ فيه خلافٌ .
اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد ، ثم اختلفوا ، فنقل عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال : لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة .
قال حُذَيْفَةُ{[2738]} : يجوز في هذين المسجدين ، وفي مسجد بيت المقدس ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ " .
وقال الزُّهْرِيُّ : لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ{[2739]} .
وقال أبو حنيفة : لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ ، ومؤذِّن راتب .
وقال الشافعيُّ وأحمد : يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل ؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع ، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة ، فيشهدها ويرجع مكانه ، ويصحُّ اعتكافه ؛ لأنه خرج إلى فرض ، وهو من الشَّرائع القديمة .
يجوز الاعتكاف بغير صومٍ ، وبالصَّوم أفضل ؛ وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم .
واحتجَّ الأوَّلون : بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم ، لما صحَّ في رمضان ؛ لأنَّ الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف ، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان ، وهو باطلٌ ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره ، وأيضاً ما روي عن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً ، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام- : " أَوْفِ بِنَذْرِكَ{[2740]} " والصَّوم لا يجوز في اللَّيل .
روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه{[2741]} .
وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رضي الله عنهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم .
لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة ، انعقد ، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً ، لخرج من نذره باعتكاف ساعة ؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً ، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف ، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ، ويخرج بعد غروب الشمس .
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى{[2742]} - : إذا أتى المعتكف كبيرةً ، بطل اعتكافه ؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة ، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمعٍ ، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف ، لأنه شيءٌ واحدٌ ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا ، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر ، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌ عن ضدِّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : " وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ " فأطلق على الكل " حُدُوداً " ؛ تغليباً للمنطوق به ، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدودٌ ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " .
وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ{[2743]} : " لاَ تَقْرَبُوهَا " أي : لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير ؛ لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ الإسراء : 34 ] .
قال أبو البقاء{[2744]} : دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ ، تقديره : " تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا " ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] على أحد القولين ؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب " حُدُودُ اللَّهِ " على الاشتغال ؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ ، نحو : " زَيْداً فَاضْرِبْهُ ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ " فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع ، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " منقطعةٌ عمَّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن .
والحُدُودُ : جمع حدٍّ ، وهو المنع ، ومنه قيل للبوَّابِ : حدَّاد ، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رحمه الله تعالى - : وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ ، أي : يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ .
وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم ، محدودٌ ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن الرِّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها ، وسمِّي الحديد حديداً ؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة ؛ لأنَّها تمتنع من الزينة .
والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء ؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة .
وقال هنا : " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " وفي مواضع أُخر : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا }
[ البقرة : 229 ] ومثله { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } [ البقرة : 229 ]
{ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } [ النساء : 14 ] لأنه غلَّب هنا جهة النهي ؛ إذ هو المعقَّب بقوله : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } وما كان منهيًّا عن فعله ، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ ، فجاء " فَلاَ تَعْتَدُوهَا " عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ ؛ كالطلاق ، والعدَّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث ؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها ، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها .
قال السُّدِّيُّ : المراد بحدود الله شروط الله{[2745]} وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ : فرائضُ الله{[2746]} .
قوله : { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ } الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ : أي : بياناً مثل هذا البيان .
فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده : { كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي مثل هذا البيان الوافي الواضح .
أو حالاً من المصدر المحذوف ؛ كما هو مذهب سيبويه .
قال أبو مُسْلِم{[2747]} : أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها ؛ كما قال سبحانه { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ }
[ النور : 1 ] ثم فسَّر الآيات بقوله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } [ النور : 2 ] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْ ؛ ليتَّقُوه ، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله .