{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالئن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } .
{ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراما عليهم ، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية . فقد أخرج البخاري وأبو داوود والنسائي وغيرهم عن البراء ابن عازب قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس ابن صرمة الأنصاري كان صائما فكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال هل عندكم طعام قالت لا ، ولكن انطلق فأطلب ذلك ، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت خيبة لك نمت ، فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية إلى قوله { من الفجر } ففرحوا بها فرحا شديدا .
والرفث كناية عن الجماع ، وعن ابن عباس قال الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع ، غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء ، قال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته وكذا قال الأزهري ، وقيل الرفث أصله قول الفحش ، رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح وليس هو المراد هنا وعدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء .
{ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } تعليل لما قبله وجعل النساء لباسا للرجال والرجال لباس لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه ، قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة لباس وفراش وإزار ، وقيل إنما جعل كل واحد منهما لباس للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس وعن ابن عباس : هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قيل لا يسكن شيء إلى شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقد روي في سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء .
{ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم يقال خان واختان بمعنى وهما من الخيانة ، قال القتيبي أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤد الأمانة فيه انتهى ، وإنما سماهم خائنين لنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم .
{ فتاب عليكم } يحتمل معنيين أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم ، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله { علم أن لن تحصوه فتاب عليكم } يعني خفف عنكم وكقوله { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله } يعني تخفيفا وهكذا قوله { وعفا عنكم } يحتمل العفو من الذنب ويحتمل التوسعة والتسهيل { فالآن } قال أبو البقاء { الآن } حقيقة الوقت الذي أنت فيه وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب تنزيلا للقريب منزلة الحاضر وهو المراد هنا ، وقد تقدم الكلام على الآن { باشروهن } أي جامعوهن فهو حلال لكم في ليالي الصوم ، وسميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد بصاحبه ، قيل هذا الأمر والثلاثة بعده للإباحة وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب للسنة .
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } تأكيد لما قبله أو تأسيس ، والثاني أولى ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل والولد ، قيل فيه نهى عن العزل وقيل عن غير المأتي ، والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم ، وقيل المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره ، وقيل ابتغوا الرخصة والتوسعة وقيل ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات ، وقيل ابتغوا ليلة القدر وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ولا دل عليه دليل آخر ، وقرأ الحسن البصري { واتبعوا } بالعين المهملة من الاتباع .
{ كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } هو تشبيه للمنع والمراد هنا بالخيط الأبيض هو المعترض في الأفق لا الذي هو كذنب السرحان فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئا ولا يحرمه ، والمراد بالخيط الأسود سواد الليل ، والتبيين أن يمتاز أحدهما عن الآخر ، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر .
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل ابن سعد قال : كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله { من الفجر } فعلموا أنه يعني الليل من النهار .
وفي الصحيحين وغيرهما عن عدي بن حاتم أنه جعل تحت وسادته خيطين أبيض وأسود جعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من السود ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال : إن وسادك إذن لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل ، وفي رواية{[180]} في البخاري وغيره أنه قال له إنك لعريض العقل ، وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم أنه ضحك منه .
قيل { من } الأولى لابتداء الغاية والثانية للبيان ، قاله السيوطي ، وقال الزمخشري وغيره للتبعيض ، أي حال كون الخيط الأبيض بعضا من الفجر ، وفي تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم من أصبح جنبا .
{ ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمر ، وهو للوجوب ، وهو يتناول كل الصيام عند أبي حنيفة ، وقال الشافعية إنما ورد هذا في بيان أحكام صوم الفرض ، ويدل على إباحة الفطر من النفل حديث عائشة في مسلم وفيه : أهدى لنا حيس ، قال أرنيه فلقد أصبحت صائما فأكل ، وقيل للوجوب في صوم الفرض وللندب في صوم النفل وقيل للوجوب فيهما .
وفي الآية التصريح بأن للصوم غاية هي الليل فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما .
{ ولا تباشروهن } قيل المراد بالمباشرة هنا الجماع ، وقيل يشمل التقبيل واللمس إذا كانا بشهوة لا إذا كانا بغير شهوة فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم ، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكون بشهوة .
{ وأنتم عاكفون في المساجد } الاعتكاف في اللغة الملازمة يقال عكف على الشيء إذا لازمه ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له عاكف في المسجد ومعتكف فيه ، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد ، والاعتكاف على أنه ليس بواجب ، وعلى أنه لا يكون إلا في المسجد .
بين سبحانه في هذه الآية أن الجماع يحرم على المعتكف في الليل والنهار حتى يخرج من اعتكافه . وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث .
وأقول أن قوله تعالى { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } جملة إنشائية نهيية مسوقة لتحريم مباشرة النساء في حال الاعتكاف في المساجد ، فقوله { في المساجد } متعلق بقوله { عاكفون } وليست لبيان النهي عن مباشرة النساء في المساجد من غير فرق بين المعتكف وغيره ، ولو كان كذلك لم تكن لقوله { وأنتم عاكفون } فائدة .
ثم هذا الاعتكاف المذكور في الآية قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باعتكافه غير مرة وهو وزوجاته وأصحابه بمحضر فكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الاعتكاف أمر بخبائه فضرب في المسجد كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ثم أقام فيه لا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان ويعود مسرعا لا يعود مريضا ولا يشتغل بشيء كما ثبت في دواوين الإسلام فهذا هو الاعتكاف الشرعي الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن زعم أن المراد به مطلق اللبث ولو في غير المسجد نظر إلى أصل معناه اللغوي فقد قدم الحقيقة اللغوية على الحقيقة الشرعية وهو خلاف ما تقرر في الأصول ، بل خلاف ما عليه أهل العلم سلفا وخلفا ، ولو كان الاعتكاف المشروع هو مجرد اللبث ولو في غير المساجد لكان اللابث في داره وفي سوقه وفي المصاطب ونحوها معتكفا إذا حصلت منه النية ، وهذا خلاف ما في القرآن الكريم ، وخلاف ما ثبت تواترا في السنة المطهرة وخلاف ما فهمه المسلمون من هذه العبادة ، بل خلاف ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قوله كما في سنن سعيد ابن منصور من حديث ابن مسعود قال : لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أو قال : إلا في مسجد جماعة ) {[181]} .
وأما ما فهمه بعض الناس من جواز الوطء للمعتكف في غير المسجد فيرده ما رواه أبو داوود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ، وقد تقرر أن قول الصحابي " من السنة " أو السنة له حكم الرفع ، وهذا الحديث كما يدل على تحريم الوطء على المعتكف يدل على أنه لا اعتكاف إلا في مسجد جامع فهو يرد عليه من جهتين ، وقد ذكر الشوكاني الكلام على هذا الحديث في شرحه على المنتقى فليرجع إليه{[182]} .
{ تلك حدود الله فلا تقربوها } أي هذه الأحكام حدود الله ، وأصل الحد المنع ومنه سمي البواب والسجان حدادا وسميت الأوامر والنواهي حدود الله لأنهما تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها وأن يخرج عنها ما هو منها ، ومن ذلك سميت الحدود حدودا لأنها تمنع أصحابها من العود ، ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها ، وقيل أن حدود الله هي محارمه فقط ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه ، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح وقيل حدود الله فرائض الله .
وقيل المقادير التي قدره ومنع من مخالفتها { كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون } أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم معالم دينه وأحكام شريعته والعلامات الهادية إلى الحق .