ولما تصوروا لهذه{[7800]} الآية الشريفة قربه وحبه{[7801]} على عظمته وعلوه فتذكروا لذيذ{[7802]} مخاطبته{[7803]} فيما قبل{[7804]} فاشتاقوا إليها وكان قد يسر لهم أمر الصوم كما على جميعهم وكيفاً على أهل الضرورة منهم كانوا كأنهم سألوه التيسير{[7805]} على أهل الرفاهية فيما حرم عليهم كما حرم على أهل الكتاب . و{[7806]}الوطء في شهر الصوم والأكل بعد النوم فقال تحقيقاً للإجابة والقرب : { أحل لكم } فأشعر {[7807]}ذلك بأنه{[7808]} كان حراماً { ليلة } أي في جميع ليلة { الصيام الرفث } وهو ما يواجه{[7809]} به النساء في أمر النكاح{[7810]} ، فإذا غير{[7811]} فلا رفث عند العلماء من أهل اللغة ، ويدل عليه وصله{[7812]} بحرف الانتهاء{[7813]} بياناً لتضمين الإفضاء أي مفضين { إلى نسائكم } بالجماع قولاً وفعلاً ، وخرج بالإضافة نساء الغير{[7814]} .
ولما كان الرفث والوقاع متلازمين غالباً قال مؤكداً لإرادة حقيقة الرفث وبيان السبب في إحلاله : { هن{[7815]} } أي نساؤكم { لباس لكم } تلبسونهن ، والمعنى : أبيح ذلك في حالة{[7816]} الملابسة أو صلاحيتها ، وهو يفهم أنه لا يباح نهاراً - والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ ويجوز أن يكون تعليلاً لأن اللباس لا غنى عنه{[7817]} والصبر يضعف{[7818]} عنهن حال الملابسة والمخالطة .
ولما كان الصيام عامّاً للصنفين قال : { وأنتم لباس لهن }{[7819]} يلبسنكم{[7820]} ، ثم علل ذلك بقوله مظهراً لعظمة هذه الأمة عنده في إرادته الرفق{[7821]} بها { علم الله } أي{[7822]} المحيط علمه ورحمته {[7823]}وله الإحاطة الكاملة{[7824]} كما قدم{[7825]} من كونه قريباً اللازم منه كونه رقيباً { أنكم كنتم تختانون } أي تفعلون في الخيانة في ذلك من المبادرة إليه فعل الحامل نفسه عليه ، والخيانة التفريط في الأمانة ، والأمانة ما وضع ليحفظ{[7826]} ، روى البخاري في التفسير عن البراء{[7827]} رضي الله تعالى عنه قال : " لما نزل صوم{[7828]} رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله عزّ وجلّ { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم- الآية{[7829]} } " ، روى البخاري والترمذي والنسائي عن البراء أيضاً رضي الله تعالى عنه قال : " كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها " وإن صرمة{[7830]} بن قيس الأنصاري رضي الله تعالى عنه - فذكر حديثه في نومه قبل الأكل وأنه غشي عليه قبل انتصاف النهار فنزلت الآية .
ولما كان ضرر ذلك لا يتعداهم{[7831]} قال : { أنفسكم } ، ثم سبب عنه قوله : { فتاب عليكم } . قال الحرالي : ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة{[7832]} جبلاتهم فعذرهم{[7833]} بعلمه فيهم ولم{[7834]} يؤاخذهم{[7835]} بكتابه عليهم ، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع{[7836]} اليمن{[7837]} في الطائفتين ، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته ، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها{[7838]} وصرف عنها ما علم أنها تختان{[7839]} فيه لما جبلت عليه من خلافه ، وكذلك{[7840]} حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك{[7841]} ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك{[7842]} ودواعيه لاجتنبها ، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة ، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد{[7843]} على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله ، فتفشو{[7844]} فيها المخالفة لذلك ، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف{[7845]} عن هذه الأمة بإجراء شرعتها{[7846]} على ما يوافق خلقتها ، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم ، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن ربك يسارع إلى هواك " ليكون {[7847]}لهم حظ مما لنبيهم كليته ، وكما قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه :
" اللّهم ! أدر الحق معه حيث دار " كان صلى الله عليه وسلم يأمر الشجاع بالحرب {[7848]}ويكف الجبان{[7849]} عنه ، حتى لا تظهر{[7850]} فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق ، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب{[7851]} على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه{[7852]} وأوفق{[7853]} لخلقه{[7854]} وخلقه ، ففيه{[7855]} أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى سمعت أن{[7856]} فارس{[7857]} و{[7858]}الروم يصنعون{[7859]} ذلك{[7860]} فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً " لتجري{[7861]} الأحكام على ما يوافق الجبلات وطباع الأمم لكونه رسولاً إلى الناس كافة على اختلاف طباعهم ، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات{[7862]} هذا الأصل{[7863]} العلي الذي أجرى الله سبحانه وتعالى الحكم فيه لأمة{[7864]} محمد صلى الله عليه وسلم على وفق ما تستقر{[7865]} فيه أمانتهم وتندفع عنهم خيانتهم . وفي قوله{[7866]} { وعفا عنكم } أي بمحو{[7867]} أثر الذنب إشعار بما كان يستحق ذلك من تطهر{[7868]} منه من نحو كفارة وشبهها ، ولما كان ما أعلى إليه{[7869]} خطاب الصوم صوم الشهر على حكم وحدته{[7870]} الآتية{[7871]} على ليلة{[7872]} ونهاره إعلاء عن{[7873]} رتبة الكتب الأول التي هي أيام معدودات مفصول ما بين أيامها بلياليها ليجري النهار على حكم العبادة{[7874]} والليل على حكم الطبع{[7875]} والحاجة{[7876]} فكان في هذا الإعلاء{[7877]} إطعام الضعيف مما{[7878]} يطعمه الله ويسقيه لا لأنّه منه {[7879]}أخذ بطبع{[7880]} بل بأنه{[7881]} حكم عليه حكم بشرع{[7882]} حين جعل الشرعة{[7883]} على حكم طباعهم ، كما قال في الساهي : " إنما أطعمه الله وسقاه{[7884]} " ، وفيه إغناء القوي عن الطعام والشراب كما قال عليه الصلاة والسلام : " إني لست كهيئتكم " ، فكان يواصل ، وأذن في الوصال إلى السحر ، فكما أطعموا وسقوا شرعة مع تمادي حكم الصوم فكذلك أنكحوا شرعة مع تمادي حكمه ، فصار نكاحهم ائتماراً بحكم{[7885]} الله لا إجابة طبع ولا غرض نفس فقال : { فالآن } أي حين{[7886]} أظهر{[7887]} لكم إظهار{[7888]} الشرعة على العلم فيكم وما جبلت عليه طباعكم فسدت{[7889]} عنكم أبواب المخالفة التي فتحت على غيركم { باشروهن } حكماً{[7890]} ، حتى استحب طائفة من العلماء النكاح للصائم ليلاً حيث صار طاعة ، وهو من المباشرة وهي التقاء البشرتين عمداً { وابتغوا } أي اطلبوا {[7891]}بجد ورغبة{[7892]} { ما كتب الله } {[7893]}أي الذي له القدرة الكاملة فلا يخرج شيء عن أمره{[7894]} { لكم } أي من الولد أو{[7895]} المحل الحل ، وفيه إشعار بأن ما قضي من الولد في ليالي{[7896]} رمضان نائل بركة ذرئه{[7897]} على نكاح{[7898]} أمر به{[7899]} حتى كان بعض علماء الصحابة{[7900]} يفطر على النكاح .
وكلوا واشربوا } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات ، " فإن لم يجد فعلى تمرات{[7901]} ، فإن لم يجد حسا حسوات{[7902]} من ماء " وقال : " إن الماء طهور " ، وفي تقديم الأكل إجراء لحكم هذا الشرع على وفق الطبع{[7903]} - انتهى . ولأنه سبب العطش ، ودل على وجوب تبييت{[7904]} النية{[7905]} وجواز تأخير الغسل إلى النهار{[7906]} ، بقوله { حتى } فإن في جعل تبين{[7907]} الفجر غاية لحل{[7908]} المفطرات إيجاباً لمراقبته للكف عنها ، وذلك هو حقيقة النية ، {[7909]}ومن استمر مباشراً إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال ليلاً{[7910]} وقال : { يتبين } قال الحرالي : بصيغة يتفعل وهو حيث يتكلف الناظر نظره{[7911]} ، وكأن الطالع ، يتكلف الطلوع ، ولم يقل : يبين{[7912]} ، لأن ذلك يكون بعد الوضوح - انتهى . وفي قوله : { لكم } بيان لأن الأحكام بحسب الظاهر وأن التكليف بما في الوسع{[7913]} { الخيط الأبيض }{[7914]} قال الأصبهاني : وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود . وقال الحرالي : فمد إلى غاية انتهاء الليل وتبين حد النهار بأرق ما يكون من مثل الخيط { من الخيط الأسود{[7915]} } {[7916]}قال الأصبهاني : وهو ما يمتد معه{[7917]} من غبش{[7918]} الليل أي{[7919]} البقية من الليل ، وقيل : ظلمة آخر الليل ، شبها بخطين أبيض وأسود . وقال الحرالي{[7920]} : ففيه إنهاض لحسن الاستبصار{[7921]} في ملتقى الليل والنهار حتى يؤتى{[7922]} العبد نور حسن{[7923]} بتبين{[7924]} ذلك على دقته ورقته{[7925]} وقد كان أنزل هذا المثل دون بيان ممثوله حتى أخذ{[7926]} أعرابي ينظر إلى خيطين محسوسين فأنزل { من الفجر } يعني فبين الأبيض ، {[7927]}فأخرجه بذكر المشبه من الاستعارة إلى التشبيه لأن من شرائطها أن يدل عليها الحالة{[7928]} أو الكلام ، و{[7929]}هذه الاستعارة وإن كانت متعارفة عندهم{[7930]} قد نطقت بها شعراؤهم وتفاوضت{[7931]} بها{[7932]} فصحاؤهم وكبراؤهم لم يقتصر عليها ، وزيد في البيان لأنها خفيت على بعض الناس منهم عدي بن حاتم رضي الله تعال عنه ، فلم تكن الآية مجملة ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة ، ولو كان الأمر كذلك ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على عدي رضي الله تعالى عنه عدم فهمها .
وقال الحرالي{[7933]} في كتاب له في أصول الفقه {[7934]}بناء على أنها مجملة{[7935]} : والخطاب بالإجمال{[7936]} ممكن الوقوع وليس يلزم العمل به فالإلزام{[7937]} تكليف ما لا يطاق وإلزام العمل يستلزم{[7938]} البيان وإلا{[7939]} عاد ذلك الممتنع ، وتأخير بيان المجمل إلى وقت الإلزام ممكن ، لأن في ذلك تناسب حكمة الوحي المنزل بحكمة{[7940]} العالم المكون ، فإن الإجمال في القرآن {[7941]}بمنزلة نطق{[7942]} الأكوان والبيان فيه بمنزلة تخطيط الصور وذلك ظاهر عند من زاوله ، وحينئذ فلا يقال : خطاب الإجمال عديم الفائدة لأنه يفيد تدريج حكمة التنزيل وتحصيل بركة التلاوة ، وفي الاقتصار على بيانه نمط{[7943]} من فصاحة الخطاب العربي حيث لم يكن فيه ذكر الممثولين اكتفاء بأحدهما عن الآخر ، ففيه تأصيل لأصل البيان من الإفهام حيث لم يقل : من الليل ، كما قال : من الفجر ، اكتفاء بما{[7944]} في الفهم من الذكر ، وفي وقوع المبين إثر غير مثله نمط{[7945]} آخر من {[7946]}فصاحة الخطاب العربي{[7947]} لأن العرب{[7948]} يردون الثالث{[7949]} إلى الأول لا إلى الثاني ليتعلق بالأول في المعنى وينتظم بالثاني في اللفظ فيكون محرز{[7950]} المحل المفهوم راجعاً إلى الأول بالمعنى - انتهى . وأوضح دليل على إيجاب التبييت{[7951]} أمره بالإتمام ، فإنه لما وقع الشروع فيه{[7952]} فالتقدير : فإذا تبين الفجر الذي أمرتم بمراقبته لكونه غاية لما أحل لكم{[7953]} فصوموا أي أمسكوا عن المفطر{[7954]} { ثم أتموا } ذلك { الصيام إلى الليل } والتعبير بثم{[7955]} إشارة إلى بعد ما بين طرفي الزمان الذي أحل فيه المفطر{[7956]} . وقال الحرالي : فكان صوم النهار إتماماً لبدء من صوم ليلة فكأنه في الليل صوم ليس بتام لانثلامه{[7957]} للحس وإن كان في المعنى صوماً ، ومن معناه رأى بعض العلماء الشروع في الاعتكاف قبل الغروب لوجه مدخل الليل في الصوم التام بالعكوف وإضافة الليل للنهار في حكم صوم ما{[7958]} وهو في النهار تمام بالمعنى والحس ، وإنما ألزم{[7959]} بإتمام الصوم{[7960]} نهاراً واعتد به ليلاً وجرى فيه الأكل والنكاح بالأمر لأن النهار معاش فكان الأكل فيه أكلاً في وقت انتشار الخلق وتعاطي بعضهم من بعض فيأنف عنه المرتقب ، ولأن الليل سبات{[7961]} ووقت توف{[7962]} وانطماس ، فبدأ فيه من أمر الله ما انحجب ظهوره في النهار ، كأن المُطعم بالليل طاعم من ربه الذي هو وقت تجليه{[7963]} " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " فكأن الطاعم في الليل إنما أطعمه الله وسقاه ، فلم يقدح ذلك في معنى صومه وإن ظهر صورة وقوعه في حسه كالناسي بل المأذون له أشرف رتبة من الناسي{[7964]} - انتهى .
ولما كان الصوم شديد الملابسة للمساجد والاعتكاف وكانت المساجد مظنة للاعتكاف{[7965]} وكان سبحانه قد أطلق في صدر الآية الإذن في الوطء في جميع الأماكن والأحوال{[7966]} غير حال الصوم خص من سائر الأحوال{[7967]} الاعتكاف{[7968]} ومن الأماكن المساجد فعقب ذلك بأن قال : { ولا تباشروهن{[7969]} } أي في أي مكان كان { وأنتم عاكفون } أي {[7970]}بايتون مقيمون أو {[7971]}معتكفون ، ومدار مادة عكف على الحبس{[7972]} أي وأنتم حابسون{[7973]} أنفسكم لله { في المساجد } عن شهواتها بنية العبادة و { في المساجد } ظرف لعاكفون ، فتحرم المباشرة في الاعتكاف ولو في غير المسجد ، وتقييد الاعتكاف بها{[7974]} لا يفهم صحته في غير مسجد ، فإنه إنما ذكر لبيان الواقع وليفهم حرمة الجماع في المساجد ، لأنه إذا حرم تعظيماً لما هي سبب لحرمته ومصححة{[7975]} له كانت حرمته تعظيماً {[7976]}لها لنفسها{[7977]} أولى ، أو يقال وهو أحسن : لما كان معنى العكوف{[7978]} مطلق الحبس {[7979]}قيده بالمسجد ليفهم خصوص الاعتكاف الذي هو الحبس{[7980]} عبادة{[7981]} ، فصار كأنه قال : وأنتم{[7982]} معتكفون ، {[7983]}هذا معنى{[7984]} المبتدأ والخبر {[7985]}وما تعلق به{[7986]} ، وكأنه جرّد الفعل ليشمل ما إذا كان اللبث في المسجد بغير نية ، والحاصل أنه سبحانه وتعالى سوى بين حال الصوم حال الاعتكاف في المنع من الجماع ، فإن اجتمعا كان آكد ، فإن الاعتكاف من كمال الصوم{[7987]} وذلك على وجه منع من المباشرة في المسجد مطلقاً .
قال الحرالي : وإنما كان العاكف في المسجد مكملاً لصومه لأن{[7988]} حقيقة الصوم التماسك عن كل ما شأن{[7989]} المرء أن يتصرف فيه من بيعه وشرائه وجميع أغراضه فإذا{[7990]} المعتكف المتماسك{[7991]} عن التصرف كله{[7992]} إلاّ ما لا بد له من ضرورته و{[7993]}الصائم المكمل صيامه والمتصرف الحافظ للسانه الذي لا ينتصف بالحق ممن{[7994]} اعتدى {[7995]}عليه {[7996]}هو المتمم{[7997]} للصيام ، ومن نقص عن ذلك فانتصف بالحق ممن اعتدى عليه{[7998]} فليس بمتمم للصيام ، فمن أطلق لسانه وأفعاله فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، فإذا حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته حتى ثبت معناه للأكل ليلاً ونهاراً ، قال صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان وأتبعه بست{[7999]} من شوال فكأنما صام الدهر " وقال {[8000]}صلى الله عليه وسلم{[8001]} : " ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر " وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم : أنا صائم ، ثم يرى يأكل من وقته فيقال له في ذلك فيقول{[8002]} : قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر ، فأنا صائم في فضل الله مفطر في ضيافة الله ، كل ذلك اعتداد{[8003]} من أهل الأحلام{[8004]} والنُّهى بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة - انتهى بمعناه{[8005]} .
ولما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذه الحرمات ضمن ما قدم{[8006]} في{[8007]} الأحكام أما في المناهي فصريحاً وأما في الأوامر فلزوماً وتقدم فيها لأن حماه سبحانه وتعالى في الأرض محارمه نبه على تعظيمها وتأكيد تحريمها باستئناف قوله مشيراً بأداة البعد : { تلك } أي الأحكام البديعة{[8008]} النظام العالية{[8009]} المرام { حدود الله } وذكر الاسم الأعظم تأكيداً للتعظيم ، وحقيقة الحد الحاجز بين الشيئين المتقابلين {[8010]}ليمنع من دخول أحدهما في الآخر{[8011]} ، فأطلق هنا على الحكم تسمية للشيء باسم جزئه {[8012]}بدلالة التضمن{[8013]} وأعاد الضمير على مفهومه المطابق استخداماً فقال : { فلا تقربوها } معبراً بالقربان ، لأنه في {[8014]}سياق الصوم{[8015]} والورع به أليق ، لأن موضوعه فطام النفس عن الشهوات فهو نهي عن الشبهات من باب " من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه " {[8016]}فيدخل فيه مقدمات الجماع {[8017]}فالورع تركها{[8018]} .
ولما علا هذا البيان إلى حد لا يدركه حق{[8019]} إدراكه الإنسان كان كأنه قال دهشاً{[8020]} : هل يحصل بيان مثله لشيء غير هذا ؟ فقيل{[8021]} بياناً للواقع وتشويقاً إلى التلاوة وحثاً على تدبر الكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه : { كذلك } أي مثل هذا البيان العلي الشأن { يبين الله } لما له من العظمة التي لا تحصر بحد ولا تبلغ{[8022]} بعد { آياته } التي يحق{[8023]} لعظمتها أن تضاف إليه وقال : { للناس } إشارة إلى العموم دلالة على تمام قدرته بشمول علمه إلى أن يصل البيان إلى حد لا يحصل فيه تفاوت في أصل الفهم بين غبي وذكي ، وعلل ذلك بقوله : { لعلهم يتقون * } أي ليكون{[8024]} حالهم حال من يرجى منه خوف الله تعالى لما علموا من هذا البيان {[8025]}من عظمته{[8026]} ، وأشعر هذا الإبهام{[8027]} أن فيهم {[8028]}من لا يتقي{[8029]} .